احتجاجات السويداء: مقدمة لثورة سورية جديدة؟

مازن عزي

ضمن برنامج مسارات الشرق الأوسط، الذي يشرف عليه مركز روبرت شومان للدراسات العليا التابع للجامعة الأوروبية في فلورنسا. كتب الباحث مازن عزي ورقة سياسات حول الاحتجاجات المندلعة في محافظة السويداء السورية. لقراءة الرابط من موقع مسارات الشرق الأوسط اضغط هنا https://medirections.com/index.php/2019-05-07-15-50-27/wartime/2020-06-12-12-20-21?fbclid=IwAR1OL8whOLDBjsZFdWf7dqOM1arfbev8ubVd_Gndjn6Ru8KiCa9UtXTl6Is

مقدّمة

توالى خروج المظاهرات في مدينة السويداء ذات الغالبية الدرزية، احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية، منذ ٦ حزيران ٢٠٢٠. ورفعت المظاهرات سقف شعاراتها السياسية إلى حدّ المطالبة باسقاط النظام السوري، وتحميل الرئيس بشار الأسد مباشرة مسؤولية الفشل في معالجة الأزمات الاجتماعية والوطنية. المظاهرات استعادت بعض شعارات الثورة السورية، بعد أكثر من خمسة أعوام على آخر مظاهرة معارضة للنظام في السويداء. وإذ رفعت المظاهرات، للمرة الأولى في سياق الثورة السورية، شعارات ذات أبعاد اجتماعية مثل “خبز، حرية، عدالة اجتماعية”، فإنها ركزت أيضاً على البعد الوطني بالهتاف التضامني مع بقية المحافظات السورية والمطالبة بإخراج القوات الإيرانية والروسية من سوريا.

وتأتي مظاهرات السويداء الأخيرة وسط انهيار متواصل لقيمة صرف الليرة السورية وقدرتها الشرائية إلى حدود غير مسبوقة، وسط ثبات لمتوسط الأجور لعمال القطاعين الخاص والعام.[2] كما أن ملاحقة الأجهزة الأمنية لشركات تحويل الأموال التي لا تلتزم بسعر صرف الدولار الرسمي، أثر على قيمة المساعدات والتحويلات التي يرسلها أبناء السويداء المغتربين في الخليج وأوروبا. وترافق ذلك مع أزمة وباء كوفيد-١٩ عالمياً التي أثرت على أعمال الكثير من أبناء المحافظة العاملين في الخارج، وتسببت في كثير من الحالات بعودة كثيفة لهم إلى سوريا من دول الخليج ولبنان، بعدما فقدوا أعمالهم، خلال شهري نيسان وأيار. ذلك المزيج من العوامل تسبب بتراجع شرائح سكانية واسعة إلى ما تحت خط الفقر، وسط عجز شبكات التضامن الأهلية الدرزية القائمة سابقاً على أسس عائلية أو دينية عن احتواء تداعيات هذا الإفقار غير المسبوق.

وسبق المظاهرات الأخيرة، سلسلة اعتصامات ومظاهرات محدودة مطلع العام ٢٠٢٠ تحت عنوان “بدنا نعيش” ركزت على الجانب المعيشي المطلبي فقط، وتجنبت الخوض في الشعارات السياسية. وتسببت الحرائق المتكررة التي طالت في شهري نيسان وأيار مساحات واسعة من سهول القمح غربي السويداء والمناطق الحراجية شرقاً، بموجة غضب شعبية واسعة، حمّلت مؤسسات الدولة السورية المسؤولية بالفشل في اخمادها. وتداعى عدد من النشطاء لإقامة اعتصامات متعددة للتنديد بالحرائق، نهاية أيار، ومنها انبثقت فكرة المظاهرات الأخيرة.

الجزء الأول: المتظاهرون ومحيطهم الداعم

جزء وازن من المشاركين في حملة “بدنا نعيش” يشارك اليوم في الاحتجاجات الراهنة. وقد وصل عدد المتظاهرين، في اليوم الثاني للتظاهر ٨ حزيران، إلى ٣٥٠ شخصاً، يشكل الشباب، ما دون الثلاثين من العمر، النسبة الكبرى منهم، وسط حضور نسوي كثيف. ويُشير ذلك إلى أن نسبة جيدة من المشاركين في الاحتجاجات الراهنة كانوا صغاراً أثناء مظاهرات ٢٠١١-٢٠١٣، ولكنهم يحملون إرثها بدليل استعادة هتافاتها وأغانيها. وينحدر معظم المتظاهرين الشباب، ونسبة معتبرة منهم من طلاب الجامعات والخريجين الجدد العاطلين عن العمل، من شرائح اجتماعية تمثّلُ الطبقة الوسطى التي تعرضت لإفقار غير مسبوق في السنوات القليلة الماضية. والحراك غير محصور فقط بأبناء مدينة السويداء، بل يشهد حضوراً فعالاً من أبناء المدن والأرياف المجاورة خاصة من شهبا والمزرعة. كما حظيت المظاهرات بحضور طيف واسع من المعارضين التاريخيين للنظام من بقايا الأحزاب اليسارية والشيوعية، في حين فضّل المتبقون في السويداء من رعيل ناشطي الثورة السورية ٢٠١١ مراقبة الوضع من بعيد، ومحاولة نقل التجربة والخبرات من دون تدخل مباشر كي يُعبّر الحراك الجديد عن صوته الخاص.

الأكثر أهمية من تركيبة المتظاهرين بحد ذاتهم، هو مستوى القبول الشعبي الذي أحيطت به المظاهرات، رغم سقفها السياسي المرافع، في منطقة تضم أقلية إثنية تمكنت بصعوبة من المحافظة على حيادها ضمن الحرب السورية، طيلة السنوات الماضية. إذ لم يتعرض المتظاهرون، لمضايقات أهلية تذكر، رغم عبورهم في مركز المدينة التجاري أكثر من مرة. وقد شهد هذا المركز، محاولات متعددة للتجمع والتظاهر، ما بين العامين ٢٠١١-٢٠١٣، غالباً ما تعرضت لمواجهات مع التجار والبائعين، ولتهجم من المارة، عدا عن الحضور الأمني الكثيف. الجو في حزيران ٢٠٢٠، رغم حرارته المرتفعة، كان مرحباً بالمتظاهرين، وشهد حالات انضمام جماعي لهم من شرائح اجتماعية مختلفة، منها تجار وباعة متضررون بشدة من تدهور الأوضاع الاقتصادية.

كما حظيت المظاهرات، بدعم معنوي، من مجموعات أهلية غير مسلحة “قبضايات الحارات”، ومباركة ضمنية من جماعات مسلحة طلب منها المنظمون ألا تتدخل إلا في حالة تعرض المتظاهرين للعنف، وذلك كي تبقى التجمعات سلمية. ويبدو أن من بين تلك الجماعات مجموعة قريبة من الشيخ ليث البلعوس، نجل مؤسس حركة رجال الكرامة الشيخ الراحل وحيد البلعوس.[3] وكان ليث البلعوس، المفصول من حركة رجال الكرامة، قد نجح مؤخراً في جمع بعض المجموعات المتبقية من حركة الشريان الواحد المنحلة، بعدما تعاهدت على نبذ من يمارس الخطف وتجارة الممنوعات. وإن كان كثير من الناشطين لا يعولون على حماية تلك المجموعات المسلحة لهم، ولا يحاولون التواصل معها أصلاً، إلا أن تلك المباركات الضمنية، أعطت نوعاً من الردع لمجموعات الشبيحة، التي لم تتلقَ بدورها أي تعليمات أمنية بمواجهة المتظاهرين، حتى اللحظة، ولذا فلم تقدم على اتخاذ أي قرار من تلقاء ذاتها.

من جانب آخر، يبدو أن ما قيل عن دعم ضمني للحراك من قبل بقايا الشريان الواحد، قد يسهم في إبعاد قوات رجال الكرامة، أكبر المجموعات الأهلية المسلحة في السويداء، عن تبني الحراك، نظراً للحزازات بين المجموعتين المسلحتين. ويضاف إلى ذلك، أن رفع الحراك لشعارات ضد النظام وروسيا، قد يساهم أيضاً في تحييد موقع الشيخ يحيى الحجار قائد قوات رجال الكرامة، نظراً للتفاهم الضمني الحذر الذي يسود علاقته مؤخراً مع النظام. ويعكس كل ذلك، نوعاً من التوازن الدقيق الذي تمكنت الحركة الاحتجاجية من استثماره، بين مجموعات مسلحة متعددة ومتخالفة، بالرهان على سخط الناس من أوضاعها المعيشية، وسط عجز النظام ومؤسسات الدولة عن وقف تدهور الاقتصاد، في منطقة أقليات يحاول النظام منذ سنوات تجنب التدخل الأمني والعسكري المباشر فيها.

الجزء الثاني: بين الاعتداءات المحدودة والمخاوف المحلية

في ١٠ حزيران، دعا فرع اتحاد طلبة سوريا في السويداء طلاب الجامعات والمعاهد، لمسيرة “تأييد لقائد الوطن”، التي دعي لها أيضاً موظفو المؤسسات الرسمية والقطاع العام. ورغم التهديدات العلنية التي رافقت الدعوة “العفوية”،[4] إلا أن الحضور كان ضعيفاً لم يتجاوز ١٠٠٠ شخص، ولم يتمكن النظام من حشد التأييد الشعبي اللازم لإظهار الولاء ونقل الاحتجاجات إلى خانة رفض قانون قيصر وتحميله مسؤولية الفشل الاقتصادي. ويعود فشل النظام في تحشيد مسيرة التأييد رغم توظيف كامل شبكاته الحزبية والاجتماعية، بشكل عام، إلى عدم اكتراث ولا مبالاة الناس بعد كل ما عاشوه من شظف العيش وتدهور أحوالهم الاقتصادية رغم كل وعود النظام. ويبدو أن النظام قد فقد، خارج دائرة التهديد والوعيد والحلول الأمنية، أي أدوات اجتماعية-اقتصادية تساعده بالتحشيد، بسبب نقص موارده، ما انعكس في تراجع قدرته حتى على تغذية شبكاته الاجتماعية والوسطاء المحليين. ولذا، يبدو أن النظام قد يلجأ للحلول الأمنية، كما حدث في اعتقال أحد النشطاء من قبل الأمن الجنائي بسبب ما قيل عن مذكرة جنائية بحقه، ومحاولة خطف ناشط آخر من وسط السوق المركزي.

ورغم الموافقة الشعبية الضمنية التي نالتها الحركة الاحتجاجية الناشئة في السويداء، يبقى التحدي الأكبر في أنها رفعت سقف مطالبها السياسية إلى الحدود القصوى، وطالبت باسقاط النظام، ما تسبب باحجام شرائح واسعة من المتضررين اقتصادياً من الانضمام لها. ويعزى ذلك إلى المخاوف التي ما زالت سارية بين الناس، من امكانية الملاحقة الأمنية والاعتقال في حال الانتقال خارج السويداء، وامكانية التعرض للفصل من الوظائف الرسمية وعرقلة الكثير من المعاملات.

المتظاهرون الشباب أثاروا بعض الحساسيات الأهلية بالهتاف نصرة لدرعا التي تشهد حراكاً مماثلاً في بلدة طفس. إذ يعتقد بعض الأهالي أن الدم ما زال رطباً على الأرض، بعد الاشتباكات الأخيرة بين الفيلق الخامس في بصرى الشام ومجموعات مسلحة من بلدة القريا في السويداء.[5] كما أن تبنى هتافات الثورة السورية، وأغاني منشدها عبدالباسط الساروت، أثارت بعض الاستياء الشعبي، نظراً للتحولات المتعددة التي عاشها الساروت ومنها تبنيه للحالة الجهادية في واحدة من مراحل حياته الأخيرة. ورغم الترحيب الشعبي الواسع للمعارضة السورية بحراك السويداء، يبدو أن حملة قادها محسوبون على الثورة في إدلب لمهاجمة حراك السويداء واعتباره ركوباً على موجة الثورة بعد عشرة أعوام على انطلاقها، قد ساهمت باعطاء بعض المترددين في السويداء ذريعة إضافية لعدم الانضمام للاحتجاجات.

خاتمة: ما هي الخطوات التالية؟

لا يبدو أن الحراك الاحتجاجي الحالي في السويداء قادر على خفض سقف مطالبه السياسية بعدما رفعها إلى حدها الأعلى، ما قد يعيقه عن الانتشار الأفقي بين الناس، وربما سيحد من امكانية توسعه. لذا، يبدو وكأن الحراك قد حجّم ذاته بذاته، منذ أعلن عن “سوريا لنا وليست لآل الأسد” كشعاره الرئيسي. كما أن التحسن الطفيف في سعر صرف الليرة السورية، قد يخفف نسبياً من حدة الاحتقان.

وتشير التحذيرات التي أرسلتها جماعات مرتبطة بالفرقة الرابعة المقرّبة من الإيرانيين، والمنتشرة حالياً في درعا، عن إمكانية تدخلها العسكري في السويداء، إلى المنحني التصاعدي الذي قد يستخدمه النظام ضمن سياسته المعتادة بالتفاوض تحت التهديد بالحل العسكري. وعدا عن تعرض احتجاجات السويداء لمقام الرئاسة بشكل مباشر، فإن أكثر ما يخشاه النظام في حال استمرارها، هو أن تلاقي صدىً شعبياً في مناطق أخرى تحت نفوذه، ما قد يخرج الأمور عن السيطرة. وإذا كانت مظاهرات إدلب المرحبة بمظاهرات السويداء تحصيل حاصل كونها خارج مناطق سيطرة النظام، فقد بدأت بوادر التمدد تظهر للعيان في مظاهرات صغيرة في حي الراشدين بمدينة حلب ومدينة زاكية بريف دمشق، وطفس في ريف درعا. وكما أن احتجاجات السويداء باتت أسيرة سقفها السياسي العالي، وحدود مطالبها الاجتماعية والوطنية، فإن النظام بات مجبراً على عدم التغاضي عنها، كيلا تكون فاتحة لموجة ثورية جديدة تجتاح مناطق سيطرته المتهالكة، وسط أزمته المالية الحادة ونفاذ جعبته من الحلول الاقتصادية والسياسية.

المصدر: برنامج مسارات الشرق الأوسط/ 12 حزيران 2020

قد يعجبك ايضا