اختبار ميونخ.. هل ذاكَر الغربيون دروسهم؟

عبد الناصر العايد

عندما كنت أرتاد، قبل سنوات، مدرسة Sciences po أو معهد الدراسات السياسية في باريس، كان مدرّس مادة الحرب المعاصرة، وهو ضابط فرنسي متقاعد، يتطرق إلى “درس ميونخ” باعتباره بداهة لا تحتاج إلى إثبات. فالرضوخ واسترضاء ديكتاتور عدواني وتوسعي، لتجنب حرب كارثية يهدد بها، سيؤديان حتماً لمواجهة الحرب لاحقاً. لكن تعاظم خطر المستبد وهوسه السلطوي، قد يبلغ حداً بحيث أن مساراً مثل هذا قد لا يمكن إيقافه سوى باستخدام أقصى درجات العنف المسجل عبر التاريخ.

يقول درس ميونخ، إن ألمانيا التي خرجت من الحرب العالمية الأولى مدمًرة، ومكبلة باتفاقية فرساي 1919، استعادت عافيتها بعد عقدين من الزمن على يد هتلر، الذي راح يستعد عسكرياً لاستعادة مكانة ألمانيا السياسية في العالم أيضاً، وبدأ ذلك من المطالبة بضم مناطق أوروبية لدولته بذريعة أن سكانها يتحدثون اللغة الألمانية. وتحت التهديد بالحرب واستخدام القوة، اجتمع به رئيس الوزراء البريطاني تشامبرلين، ورئيس وزراء فرنسا دلادييه، وهما زعيما الدولتين الغربيتين العظميين حينها، ومنحاه على سبيل الترضية إقليم السوديت في تشيكوسلوفاكيا، إحدى المناطق التي كان يطالب بها، لأنها كانت جزءاً من الإمبراطورية المجرية النمساوية التي يعتقد هتلر أنها أحد أسلاف ألمانيا المعاصرة. وهكذا، وقّعا معه مع عرف بمعاهدة ميونخ العام 1938، بعدما وعدهما الزعيم النازي بأن يكف عن المطالبة بمزيد من الأراضي. ردود الأفعال على الاتفاقية كانت عنيفة. سمّتها تشيكوسلوفاكيا، التي كانت مرتبطة بحلف عسكري مع فرنسا، “خيانة ميونخ”.

إلا أن الدرس البليغ الذي ما زال التاريخ السياسي الغربي يحفظه، جاء من الزعيم البريطاني المخضرم تشرشل، الذي كان في المعارضة، ووبخ رئيس وزراء بلاده الذي رفع وثيقة المعاهدة قائلاً “ها قد حققنا السلام في زماننا”، فقال له في مجلس العموم بأنه أحمق، وفاشل، وقد ارتكب خطأ لا يغتفر. فهتلر سيطالب الآن بمزيد من الأراضي، وسيشن حرباً عالمية ثانية في عموم أوروبا، وأن فرنسا وبريطانيا ستدفعان غالياً ثمن هذه الغلطة الشنيعة. وهو ما حدث بالفعل، إذ نقض هتلر الاتفاقية بعد ستة أشهر فقط، واجتاح ما تبقى من تشيكوسلوفاكيا، ثم بولندا، ثم دول أوروبا، واحدة بعد الأخرى، بما فيها فرنسا، ولم ينقذ بريطانيا حينها سوى عودة تشرشل إلى القيادة ووضع الأمور في نصابها الصحيح، لكن بعد تدمير القارة الأوروبية تقريباً.

معهد الدراسات السياسية في باريس الذي يحتفي بهذا الدرس، هو نفسه الذي تخرجت فيه نخبة الساسة الفرنسيين اليوم، وعلى رأسهم ايمانويل ماكرون. لكنه ليس الوحيد الذي يعتمده، بل تعتمده كافة الجامعات والأكاديميات العسكرية الغربية، مثل ويست بوينت الأميركية الشهيرة، وجرى استخدامه مراراً في الحرب الباردة، كما ذكره جورج بوش الأب حرفياً عند تبريره لشن الحرب على العراق بعد غزوها الكويت العام 1990.

هل ينطبق مثال ميونخ على حالة بوتين في أوكرانيا اليوم؟ يمكن للمرء تتبع الملخص أعلاه واستبدال اسم هتلر ببوتين، وروسيا بألمانيا، والامبراطورية المجرية النمساوية بالاتحاد السوفياتي، والسوديتت بشبه جزيرة القرم، ليكتشف أن درس ميونخ مرّ مرور الكرام، منذ أن تغاضى الغرب عن استيلاء بوتين على جزيرة القرم العام 2014.

البيئة الاستراتيجية أيضاً تكاد تكون مشابهة، خصوصاً نوع الشخصيات التي تحكم القوى الغربية العظمى. فسواء تعلق الأمر بباراك أوباما أو جو بايدن، فإنهما ليسا بمبعدة على الإطلاق من سلفَيهما الغربيين اللذين وقعا اتفاق ميونخ. لا ينقص المشهد سوى قائد لديه بُعد النظر الاستراتيجي، مثل تشرشل، يستطيع أن يأخذ دفة القيادة ويقول: يجب أن يحسم هذا الأمر الآن، وفي أوكرانيا، وإلا فإن الزمن لن يطول قبل أن تنهمر القنابل والصواريخ، بما فيها النووية، على أوروبا كلها والعالم بأسره.

قد يظهر من يعترض هنا قائلاً أن موقفاً مثل هذا، سيدفع بوتين للجوء إلى السلاح النووي وتدمير الكوكب. أصحاب هذا الرأي على حق، فيما لو كان الزر النووي الروسي مثل قابس المصباح في غرفة نوم بوتين، يمكنه أن يضغط عليه ثم يخلد إلى النوم. لكن الأمر في الواقع أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. والردع الغربي، بشقيه التقليدي والنووي، تتراكم تفاصيله وأدواته منذ أكثر من نصف قرن لمنع حدوث ذلك. وحتى لو وصلت إصبع بوتين إلى مقابس بعض الأسلحة النووية، ومع أنها قد لا تتجاوز الأراضي الروسيّة، فإنه سيخسر ما تبقى من ترسانته النووية في دقائق، وستنفجر في أراضي روسيا ذاتها، لتصبح تلك البلاد أثراً بعد عين.

هو سيناريو مرعب بلا شك، لكنه بعيد الاحتمال نوعاً ما. وما قد يحدث هو أن يستخدم بوتين السلاح النووي في نطاقات تكتيكية محدودة في أوكرانيا، وفي إطار المعركة التقليدية، كما تقتضي العقيدة الروسية المعاصرة، وذلك ليظهر جديته وعزمه. لكن، إذا أظهر العالم الغربي جديته بدوره، وردّ على سلوك مثل هذا على نحو موحد وحازم، وأجبر هذا المهووس النووي على الاستسلام، فإن العالم سينجو إلى زمن غير معلوم من تهديد أخطر بكثير.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا