الأساطير اللبنانية المؤسِّسة للكابيتال كونترول و”قصّ الشعر”

يُكرّر معظم الاقتصاديين في لبنان، ممن يتناوبون الظهور على الشاشات، الكليشيه التالي: “حتى أعظم بنك في أميركا، لو تقاطر عليه المودعون لسحب أموالهم، لأفلَس”، ويسوقون لذلك أمثلة مما حدث في اليونان وقبرص، من دون الربط بين طبيعة تلك الأزمات المالية والأزمة اللبنانية الراهنة.

ثقة العملاء هي من أسس العمل المصرفي، وهلعهم (panic) هو عدوه الرئيسي. إلا أن انهيار ثقة المودعين في القطاع المصرفي اللبناني، كان لاحقاً، فعلياً، على الهلع الذي أصاب البنوك في البداية، ودفعها إلى فرض ما قالت إنه Capital Control، من دون أي إعلان رسمي، حتى اللحظة، عن حالة طوارئ اقتصادية. فالناس تقاطرت لسحب النزر اليسير “المسموح” لهم به من ودائعهم وحساباتهم الجارية، بعدما اكتشفت أن البنوك جمّدت كل العمليات المصرفية.

أي أنه، ومن دون سابق إنذار تقريباً، وباستثناء تصريحات متفرقة متباعدة لبعض أركان السلطة، وُضِع القطاع المصرفي اللبناني بالكامل في العناية المشددة، باستغلال ظرف الاحتجاجات الشعبية، ومن دون تبرير حقيقي. حتى حاكم مصرف لبنان، لم يشرح، حتى اللحظة، الوضع المالي بشفافية. بل قال بعدم وجود خوف على القطاع، وبعدم وجود Capital Control، ما يناقض، وبشكل صارخ، ما يحصل على الأرض.

“كابيتال كونترول”
ومع تشديد قواعد وموانع السحب، ضمن أعراف مستجدة متروكة لتقديرات البنوك، بلا قوانين ناظمة، في ظل انكماش مريع للاقتصاد مع انعدام السيولة، بات لبنان يعيش في قلب الأزمة المالية، من دون اعتراف رسمي بها، وكأنها تحدث في كوكب آخر.

القيود العنيفة المفروضة على مقدار السحب الأسبوعي للمودعين وأصحاب الحسابات الجارية، في لبنان، قد يصحّ فيها تقنياً وصف الكابيتال كونترول، إلا أن هناك فوارق أساسية غائبة. فالكابيتال كونترول، هو إجراء تتخذه الحكومة، أو أعلى جهة تنفيذية، لتنظيم التدفق المالي بين الأسواق المالية والسوق المحلية (وهو ما لم يحصل في لبنان، بل فُرض بقوى الأمر الواقع المصرفية!). وهو إجراء شديد الضرر بالاقتصاد، ويكاد ضرره يفوق فائدته إذا ما استخدم بصورة عشوائية من دون قوانين ناظمة واضحة تطاول قطاعات محددة، خلال مدة تطبيق محددة.

ويشمل الكابيتال كونترول، مروحة واسعة من القيود. أهمها، حظر أو فرض ضرائب على بيع العملة الوطنية وشراء العملات الأجنبية، وتحديد سقوف على مقدار الأموال المسموح بتحويلها إلى الخارج. وهو لا يشمل تحديد سقوف سحب أسبوعية بالعملة المحلية من الحسابات الجارية، ولا على الحسابات الدولارية بالأصل (كما هو الحال في لبنان اليوم). فهذا يُعرض كامل دورة رأس المال للانكماش الشديد، ويهدد بانهيار كامل للاقتصاد. بل إن هذا الإجراء يفترض أن تتخذه المصارف التي تعيش على شفا الإفلاس، ما يستدعي تدخلاً للدولة، مُمثلةً بمصرفها المركزي، لجدولة الدَّين وشرائه، وحماية المودعين.

اليونان وقبرص
في اليونان، بدأت بوادر الأزمة المالية في العام 2007، ولم يُفرض الكابيتال كونترول فيها إلا في العام 2015، خوفاً من انهيار النظام المصرفي بعد اضطراب طويل للمصارف. ورُفع الكابيتال كونترول تدريجياً حتى العام 2019، ولم تُمسّ خلاله الودائع ولا الحسابات الجارية.

والأزمة المالية اليونانية تعود بشكل رئيسي إلى أزمة ثقة، رافقت الكشف عن بيانات غير دقيقة (نتيجة إخفاء عمليات بيع مشتقات مالية) عن عجز الميزانية والدَّين العام تبيّن أن نسبتهما إلى ناتج الدخل المحلي، أقل بـ10 في المئة من الأرقام الحقيقية.

في قبرص، المشكلة كانت أن أكبر مصرفَين حكوميين اعتمدا على الاستثمار بشراء سندات حكومية يونانية على مر سنوات. وبعيداً مما يحكى عن دور رأس المال الروسي الخاص وتبييض الأموال في قبرص، فإن الأزمة انكشفت فعلياً مع تعثّر الحكومة اليونانية في سداد ديونها، وبدء مفاوضات مع دائنيها من المستثمرين على إجراء Haircut، بدعم من الاتحاد الأوروبي.

الأزمة اللبنانية: شعوذة؟
مع اندلاع الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين الأول، أغلقت المصارف اللبنانية الخاصة أبوابها، متذرعة بالأوضاع الأمنية والإضرابات. وبعد إعادة فتحها، فرضت حظراً على معظم التعاملات المالية، وادّعت أنه الكابيتال كونترول. فعلياً، وبعد فرض هذه الإجراءات التقييدية، دَبَّ الذعر بين المودعين. وقيل ما قيل، عن تهريب مليارات الدولارات إلى خارج لبنان، خلال الشهور القليلة الماضية، قبل الثورة، ويعني ذلك ضمناً، أن شريحة من كبار المودعين، المقربة من دوائر السلطة الفعلية، كانت على دراية بالأزمة المقبلة، فاستعدّت لها.

هناك حلقة مفقودة ضرورية لتفسير المشهد المالي اللبناني الحالي. لذا، قد يصحّ تبسيطاً الافتراض التالي:

الدين العام اللبناني كان قد بلغ 74.5 مليار دولار للعام 2018، بنسبة 140 في المئة من ناتج الدخل المحلي البالغ 56.372 مليار دولار للعام ذاته. المصرف المركزي، استخدم مشتقات مالية مماثلة لـCross Currency SWAP لتأمين وإقراض الدَّين، إلى البنوك اللبنانية الخاصة، مقابل نسبة فائدة مركّبة وعالية. للقطاع المصرفي الخاص حصة الأسد في الدَّين العام، بنسبة 53.8 في المئة. أي أن الدولة اللبنانية، مُمثلةً بالمصرف المركزي، مَدينة للمصارف الخاصة بأكثر من نصف مديونيتها التي تصنف الثالثة عالمياً على مستوى حجمها بالنسبة إلى ناتج الدخل المحلي. واستخدم المصرف المركزي تلك الأموال، لتمويل عجز الميزانية اللبنانية، وخدمة الدَّين العام، وتثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار.

وهذه السياسة النقدية، أو الهندسة المالية، معمول بها في كثير من الدول، وليست شعوذة كما يحلو لبعض اليساريين وصفها. إلا أن هذه السياسات، وحدها، ليست كفيلة بإحياء الاقتصاد، بل بتجنيبه الانهيار، أطول فترة ممكنة، شرط أن تدعمها سياسات تنموية حقيقية، تعمل على تحفيز إجمالي الناتج المحلي GDP، وبقية المؤشرات الاقتصادية. أي تماماً على العكس مما يحدث في لبنان. إذ أن الإنفاق المتواصل، بفساد أو من دونه، من دون موازنته مع الدَّخل، سيقود إلى الإفلاس حتماً.

الكرة تبدو في ملعب المصرف المركزي، الذي يبدو أن جزءاً من ديونه بات يُعتبر Bad Debt/Bad Assets، وهو ما اتضح في خفض التصنيف الائتماني المتتابع للبنان، ولدَينِه السيادي، وحتى للبنوك الخاصة. أي أن الدولة اللبنانية تقترب بسرعة من الإفلاس، ما دفع بأبرز دائنيها، أي المصارف الخاصة، إلى تجميد أموال المودعين وحساباتهم الجارية، كضمانة ووسيلة تفاوض مع المصرف المركزي لتحصيل الديون، وربما كرهينة تستعدّ للاقتطاع منها.

Haircut
فجأة بدأ الحديث في لبنان عن Haircut أو إجراء “قصّ الشَّعر”، وبات بعض الخبراء يتحدثون عن “عدالة في توزيع الخسائر” بين كبار وصغار المودعين. ومن الغريب فعلاً الحديث عن هذا المفهوم، في هذا التوقيت، وقبل اتضاح حدود الأزمة، وكلفة الحلول للخروج منها.

ويبدو أن خلطاً مقصوداً يعتري المفاهيم فيربط “قصّ الشعر” بـCapital Levy، أو الضريبة على رأس المال. إذ أن الـHaircut، هو إجراء مالي معقّد، أساسه هو الفرق بين القيمة الإسمية للعقار الضامن لسداد قرض مأخوذ من المصرف، قبل وبعد رهنه للمصرف. وفي السياق الميديوي (من “ميديا”)، فإن “قصّ الشعر” هو إجراء ثنائي تفاوضي، بين الدائنين من حَمَلة السندات الحكومية، وبين ممثلي الحكومة والمصرف المركزي، لخفض الدَّين العام، خوفاً من الوقوع في حالة فشل State Default  وعجز الدولة عن السداد. ولا يتعلق الـHaircut، بأي شكل من الأشكال، بالمودعين ولا بالحسابات الجارية.

في اليونان، اتفق الدائنون والحكومة على قصّ الدَّين بنسبة 50 في المئة، مقابل الموافقة على تمرير أول حزمة مساعدات مشتركة من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي.

ولأن التعبير “سكسي”، ربما يتعمّد المصرفيون الخلط بين Haircut وبين Capital Levy الخاصة بالمودعين. وهذه الأخيرة هي ضريبة تُفرض لمرة واحدة فقط، بنسبة مئوية، على الحسابات التي تفوق سقفاً محدداً. ويتبرع المحللون الماليون للمصارف اللبنانية في تحديد السقوف التي ستطاولها تلك الضريبة، ويتحدثون عن “العدالة” في توزيعها!

فعلياً، لا وقاحة أكبر من طرح هذه الفكرة في السياق اللبناني الآن. فهي، عدا أنها تزيد الرعب بين الناس، فإنها تبدو أداة انتقامية ستستخدمها الطبقة السياسة الحاكمة المتحالفة مع أوليغارشيا أصحاب المصارف، لتحميل إفلاس الدولة للمودعين، خصوصاً صغارهم من خارج دائرة زبائنية الاقتصاد اللبناني. فالمصارف استثمرت في الهندسات المالية عالية المخاطر للمصرف المركزي اللبناني، الذي موّل طيلة سنوات عملية نزيف متواصلة قادتها الطبقة السياسية الحاكمة، من دون أي تعويض إنتاجي خارج دائرة رأس المال المالي.

نقابة للمودعين!
تبدو جبهة المصارف بعيدة تماماً مما يحدث في الكباش السياسي المستعر بين التيار العوني و”حزب الله” من جهة، وتيار “المستقبل” من جهة أخرى. وكذلك بين جميع أفرقاء التسوية السياسية “للعهد القوي” من جهة، وجمهور المنتفضين من جهة أخرى. ويحلو للطبقة السياسية نشر أوهام من نوع أن التوصل لإعلان حكومة “ذات مصداقية” سيعيد المياه إلى مجاريها، وسيرفع قيود الكابيتال كونترول، بعد أن يبدأ تدفق الاستثمارات الخارجية إلى البلد.

في الواقع، لا يبدو الكباش السياسي الراهن بين أفرقاء الطبقة السياسية، إلا انعكاس للاستعصاء الذي تعيشه المصارف من جهة، والمصرف المركزي من جهة أخرى. فالإفلاس المالي واقع وحقيقة، وكذلك الإفلاس السياسي. وهذا ما تدور حوله ثورة تشرين: التخلص من المنظومة الحاكمة المهترئة، كتحالف بين الطبقة السياسية والأوليغارشيا المصرفية، التي أوصلت البلاد إلى حالة الإفلاس الراهنة. وفي حين يبدو أن الشقاق قد وقع في صفوف حُماة العهد القوي، فإن جبهة المصارف ما زالت قابضة على جَمر ودائع الناس، وكأنه الحرير.

وإذا كان لموظفي المصارف نقابة، وللمصارف نقابة، فلماذا لا تكون للمودعين وأصحاب الحسابات الجارية نقابة، وهُم أصحاب المصلحة الحقيقية في وقف الإعتداء المُبيّت على أملاكهم؟

نقابة المودعين وأصحاب الحسابات الجارية، قد تردع نسبياً، بالقانون ووسائل الدفاع السلمية، أي عملية شطب للودائع، وقد تتمكن من رفع سقوف الكابيتال كونترول غير المسبوقة. دخول النقابة كطرف ثالث، بين المصرف المركزي والمصارف، قد يسهم في إيجاد حلّ تفاوضي، يتجاوز أقطاب العملية السياسية المشلولة، ويفرض خروجاً من عنق الزجاجة، وربما يُشجّعُ التوجه إلى صندوق النقد الدولي، كحاجة لا بد منها.

تأميم البنوك الخاصة المتعثرة، قد يكون حلاً واقعياً يزوّد الدولة اللبنانية بوسائل مالية غير المصرف المركزي، ويحمي الناس. وبذا، لا تبقى الدولة أداة لحماية الأوليغارشيا فقط.

تعويم العملة المحلية تدريجياً (Devaluation أي تركها لتحدد سعرها مقابل حزمة عملات أجنبية بحسب قوة السوق)، هو إجراء متّبع في حالات مشابهة. فقد تفاقمت أزمة اليونان خصيصاً لانعدام هذا الخيار، بسبب تعاملها باليورو وتخليها سابقاً عن عملتها المحلية. في حين أن دولة بحجم اقتصاد مثل تركيا، لم تمانع خفض قيمة عملتها خلال السنوات القليلة الماضية بأكثر من الضعف.

إجراء إصلاحات هيكلية للدولة والاقتصاد، مترافقة مع حزم تمويل دولية، قد يخفف قليلاً من الأثر العنيف المتوقع للأزمة، ويسمح بالخروج منها بالحد الأدنى من الخسائر الكبيرة، في مدى سنوات قليلة. إلا أن ترك الأمور للطبقة السياسية الحالية، مع الوهم الذي يسوّق له “حزب الله” بأن الأزمة هي خدعة أميركية للقضاء على دوره “الممانع”، وعجز التيار العوني الشعبوي عن رؤية الأزمة إلا كاستهداف لدور “المسيحيين الأقوياء”.. هذه العناصر كلها لن تكون إلا وصفة مثالية للحل الذي سيحمي المصارف من عواقب إفلاس الدولة: الفوضى.

المدن ١٠ ديسمبر/ كانون١ ٢٠١٩

قد يعجبك ايضا