فتّتَ نشوبُ الحرب هذه الهوية الوطنية الهشة، ومع تلقّي أطراف الصراع كلّها لدعمٍ مفتوحٍ من الجهات الفاعلة الخارجية (التي تتعامل غالبًا مع الساحة بوصفها مؤشرًا لصراعاتها الدولية الخاصة بها)، كان يُلقى بالعديد من السوريين جانبًا، حين يتعلق الأمر بصوغ تصورات جديدة عنهم بوصفهم أفرادًا. قال إرنست رينان: إن “وجود أمّةٍ ما هو استفتاء يومي، مثلما أن وجود فرْدٍ ما هو تأكيد دائمٌ للحياة” [4]. ومع ذلك، عندما تتمزق الأمة، تضيع هذه الرؤية الوجودية المشتركة بعناد. ناقش المحللون باستفاضة صدامات الهويات الطائفية أثناء الحرب [5]، فضلًا عن استخدام الطائفية من مختلف الجماعات، لأغراض دعائية [6]. بيد أن هذه التفسيرات غالبًا ما أهملت الكيفية التي يخدم بها صعود الطائفية في سورية غرضًا وجوديًّا أشد جوهرية، بتأمينه شعورًا بالهوية في أعقاب ضياع مثل وطني أعلى.

في الأشهر الأخيرة، مع انتشار تطبيق “المنابر Clubhouse” الجديد في المنطقة، تحمّس السوريون العاديون لهذه المنابر، ليناقشوا بإسهاب ما تعنيه الهوية الطائفية لهم. وبصفتي مراقبة ومديرة لغرف نقاش تتعلق بالانتماء والهوية، أصبحتُ أكثر وعيًا بأن الطائفة في سورية تشكّل مصدر قلق وجودي على نحو متزايد، بطريقة تتجاوز تعزيز السلطة، وتأكيد علاقات القوة، أو الممارسة الدينية. بالنسبة إلى كثيرين، برزت مسألة الهوية الطائفية باعتبارها حاجة نفسية عميقة بعد انهيار الهيمنة البعثية. ويجري هذا البحث في ظرف تقوم فيه مجموعات متعددة باستخدام الهوية السنّية سلاحًا وتدّعي تمثيلها[7].

قام النظام بترسيخ السنّية كهوية أمن وجودي، بغرض الحشد والتعبئة، من دون أن يخشى فقدانه حاضنته الشعبية من طائفته. واستخدمت بعض ميليشيات المعارضة الهوية السنّية بدافع بسط أحقية السلطة والحكم في مرحلة ما بعد الأسد. وهكذا نرى أن النظام الحاكم وميليشيات المعارضة كلاهما انخرط في الترويج لمفاهيم جديدة للهوية السُنّية؛ بالنسبة إلى النظام، هناك جهدٌ متزايدٌ يُبذل من أجل الدفاع عن السنيّة “المعتدلة”، بوصفها مثلًا أعلى للدولة السورية والتشارك مع المفاهيم الغربية المتمثلة في “إزالة التطرف”. أما بالنسبة إلى بعض ميليشيات المعارضة، فإنها قضية حشد السنّيّة بوصفها هوية استفزازية لمحاربة النظام.

في هذه المقالة، أستخدم مفهوم جينيفر ميتزن، في الأمن الوجودي (الأنطولوجي)، باعتباره “أمنًا ليس للجسد، بل للذات، الإحساس الذاتي بهوية المرء، التي تسمح بالعمل والاختيار وتحفز عليهما” [8]. تستخدم ميتزن هذه المقاربة، لمناقشة السلوك غير العقلاني والقمعي لموظفي الدولة الذي لا يمكن تفسيره على أنه جهد منطقي لخلق الأمن القومي المادي، بل بوصفه ضرورة لحماية أمن الهوية. وفي هذا السياق، توجهت الدولة السورية بشكل كبير، بعد بداية الانتفاضات في عام 2011، نحو تأمين رؤية خاصة للسنيّة، إلى حد التخلي عن نظرتها العلمانية/ المحايدة التي كانت تتبناها منذ زمن طويل. وهذا بالطبع يأتي استجابة لحشد المعارضة لهوية سنيّة عادت إلى الظهور بوصفها أسلوبًا للمقاومة. ومن خلال وصف خطوط الحرب الناشئة بأنها صراع ثنائي بين العلويين والسنة، فإننا نخاطر بإهمال هذه المبارزة وعدم التبلور الحالي للهوية السنيّة في سورية.

السنّيَّة سلاحًا

راوحت العلاقة التاريخية بين النظام البعثي والزعماء السُنّة في سورية بين العداء والتعاون المشترك. منذ مجزرة حماة عام 1982، كانت الدولة البعثية بقيادة حافظ الأسد قد اعتادت استخدام العنف المفرط ضد المدنيين، للقضاء على أي احتمال لظهور معارضة ذات طابع ديني. وعندما تولى بشار الأسد قيادة الحزب عام 2000، أشرف على بذل جهد أكثر لينًا، من أجل إعادة أوسع تحالف من النخب السنية المحلية إلى الوطن، كان لبعضهم من قبلُ وجهات نظر معادية حول النظام وأيديولوجياته العلمانية. وقد أدت هذه الترتيبات إلى تداخل متزايد بين سلطة الدولة والتعليم الديني المشرّع [9]. وبعد بداية الحرب، تحولت هذه الجهود في بناء الجسور إلى موقف أكثر جمودًا، شدد النظام من خلاله على ثنائية بين السنيّة “الصحيحة” والسنيّة “الخطأ”، وبدأ في الترويج لجبهة وطنية دينية. وقد سعى خطاب الدولة الناتج عن ذلك إلى إقامة حدود ثابتة بين المواطنين السُنّة الموالين، في مقابل المعارضين غير الموالين، مع اعتبار أن الجماعة الأخيرة تتمسك تلقائيًا بآراء دينية “خاطئة” [10].

في الأساس، كان الخطاب الرسمي لنظام الأسد يتبنّى توصيفًا شاملًا لأي احتجاج أو معارضة، على أنهما يقومان على الأصولية الدينية السُنّية، التي صورها على أنها هرطقة[11]. كان بشار الأسد قد أطلق مصطلحات ذات رمزية دينية ضد معارضيه، مثل “كفار، خوارج، طائفيين، إرهابيين، إسلاميين”. وأدى هذا إلى خلق تشدد في المواقف ونشوء حلقة مفرغة تبنت فيها جماعات الميليشيات المعارضة التي لم تكن منجذبة في البداية إلى الأصولية (بعض جماعاتها) التشدّدَ على نحو متزايد، كنوع من التضامن والأمن الوجودي. وساهمت بعض ميليشيات المعارضة في هذه العملية، من خلال التشديد على سردية الإيذاء الطائفي. ومن ناحية أخرى، لا ينبغي أن يُفهم لجوء قوات النظام والميليشيات المرتبطة بها إلى العنف المفرط ضد المتظاهرين على أنه وسيلة لتأكيد القوة المادية فحسب، بل أيضًا بوصفه نتيجة حاجة يراها ضرورية لإصلاح وإعادة ترسيخ الهوية الوطنية المحطمَة، من خلال التمييز بين المواطنين الشرعيين والآخرين المشيطنين[12].

ينتج استعصاء الصراع السوري جزئيًا عن الطريقة التي صار بها الأمن الوجودي مرتبطًا بالحاجة إلى إبادة الآخر. وبدلًا من الوقوع في فخ تجانس السنة أو العلويين أو أي طائفة/ اثنية أخرى في سورية، من المهمّ مراقبة الصراع حول الهوية وإدراك أن الكثير يتوقف على مسألة كيف تتنافس جميع الأطراف لتمثيل السنية كأمن وجودي للبقاء. إن تطبيق الأمن الوجودي كإطار نظري يدفع بهذه القضايا إلى المقدمة، ويسمح بفهم أفضل لكيفية قيام السوريين بإعادة بناء واقعهم الاجتماعي وهوياتهم. وإن الأهمية المتزايدة للهويات الفرعية في سورية بعد عام 2011، سواء كانت عرقية أو طائفية أو مناطقية، ينبغي أن تفهَم في ضوء العملية الشخصية العميقة لإعادة الاصطفاف النفسي الناتج عن تمزق المثل الأعلى الوطني. وعلى الرغم من أن هذه العملية تجري في سياق تسخير وأمننة الهوية من قِبَل منظمات عديدة، فإنَّ علينا ألا نهمل وكالة السوريين وهم يتنقلون في منطقة الصراع هذه.

التطييف كشكل من أشكال الأمن الوجودي

إن فهم دور الأمن الوجودي في الحرب السورية يمكن أن يساعد في توضيح منطق الهويات المتنافسة التي تكافح من أجل البقاء. وإن استمرار الصراع يعزز الهويات القائمة على شيطنة الآخر، وفي الواقع، إن احتمال الخروج من الصراع يمكن أن يولّد تهديدًا بانعدام الأمن الوجودي. ويتمثل مظهر مركزي لهذا النوع من التكوين الهوياتي في الجمع بين الرضة النفسية وسرديات الإيذاء، التي يتم فيها توزيع أي ضرر تاريخي أو حالي على جميع من يتماهون مع المجموعة. هناك عواقب على المدى الطويل لهذا الإيذاء الجماعي، لأنه قد يصبح بؤرة هوية الجماعة والهدف الذي يتفاعل من خلاله أعضاء الجماعة مع الحركات السياسية.

على سبيل المثال، بثّ النظام -كجزء من جهوده الدعائية- كثيرًا من القصص والتقارير التي تركز على السلوك التمييزي/ التعسفي، من جانب أهل السنّة ضد العلويين، مركزًا على الجوانب الطائفية لهذه الصراعات[13]. من جانبها، دعت بعض ميليشيات المعارضة إلى القضاء الفوري على العلويين. وأصبح الخطاب العدائي والطائفي أكثر بروزًا ضمن الخطاب السني، كما يتضح من النفوذ المتزايد للمشايخ، مثل عدنان العرعور، الذي كان يحرّض، من قناة (صفا) التلفزيونية، على مشاركة الميليشيات، وينتقد السنة الذين لا يؤلفون جزءًا من المعارضة. إن الحاجة إلى أمن وجودي وأشكال أقوى من الهوية الشخصية في زمن الخوف والقلق دفعت كثيرًا من السوريين إلى تبني هذ الخطاب، الذي يعتمد على الرضّة النفسية الجماعية الطائفية، بدلًا من برنامج وطني قوي كأساس لتطلعاتهم السياسية.

مع صعود قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بوصفها ممثلة للأكراد في شمال شرق سورية، والجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، وهيئة تحرير الشام (التي كانت تابعة في السابق للقاعدة) في شمال غرب سورية، صارت احتمالات قيام حركة سياسية ديمقراطية موحدة ضد النظام قاتمة أكثر فأكثر. إذ إن جميع الأطراف المعنية تنخرط الآن في ديناميات الإيذاء التنافسية ضد الجماعات الأخرى، مع استمرار العنف الذي يهيمن على أي أمل في الانتقال السياسي السلمي أو ظهور شكل جديد من هوية وطنية سورية مشتركة. ومع تزايد عدم تماسك الوضع، فإن الضرورة النفسية للأمن الوجودي، من خلال ترسيم دقيق وصارم لحدود الذات/ الآخرين، ستكون أقوى وتزداد تعزيزًا.

التحرّك إلى الأمام

لا يزال الصراع السوري، في لحظة كتابة هذه السطور، أبعد ما يكون عن الحلّ؛ فاللجنة الدستورية الحالية لم تتمكن من تنفيذ قرار الأمم المتحدة 2254 لوضع خارطة طريق لمحادثات السلام. إذ إنَّ القيام بذلك يوجب أن نعالج مباشرة الهويات الاجتماعية المستقطَبة التي ظهرت في سورية، ودور الاحتياجات الأمنية الوجودية في الحفاظ على الصراع. ويمكن تقديم بعض التوصيات المحددة:

  • – يتعين على زعماء المعارضة أن يدعوا إلى تبني خطاب وطني أكثر شمولًا يتجاوز استقطاب الانتماءات الطائفية. إن خطاب المعارضة الحالي يغذي النزعة الثنائية والإقصائية، التي تقف في طريق الحل الديمقراطي السلمي.
  • – هناك حاجة إلى ترسيخ الوساطة كممارسة لبناء الثقة قبل أي تسوية سلمية. فبدلًا من الاستعانة بالوجهاء (زعماء القبائل) والشيوخ، كجزء من عملية الوساطة الرسمية، يتعين على الزعماء المحليين الذين لا انتماءات طائفية قوية لهم أن يعملوا كممثلين للطوائف المختلفة في سورية.
  • – إن تمكين المنظمات المدنية السورية، ومن ضمنها الجماعات النسوية والشباب في الشتات، أمرٌ حيوي للمساعدة في إزالة التطييف من الصراع. ولهذه المجموعات خبرة قوية في تعزيز السرديات التي تعطي الأولوية للمواطنة والتعددية كأساس للانتماء الوطني.
  • – من الأهمية بمكان تحييد التلاعب الدولي بالجماعات المختلفة في الصراع السوري، واستغلالها كأداة، وتعزيز إرادة السوريين العاديين كوسيلة لإنهاء الاستقطاب.

من أجل كسر حلقات العنف والإفلات من العقاب التي أدت إلى زعزعة استقرار المجتمع السوري، على مدى العقود الخمسة الماضية، هناك حاجة إلى دعم عملية العدالة الانتقالية التي يقودها السوريون ويضعونها موضع التنفيذ. وهو ما سيسمح لسورية بمواجهة ماضيها والبدء في عملية بناء سلام مستدام. من أجل استعادة كرامة الضحايا وإعطائهم الوسائل لذلك، لا بد من إنشاء بنى سياسية وديمقراطية قوية، واستعادة سيادة القانون، ووضع أسس مبادرات وطنية للمصالحة والتعويض. ويتعين على السوريين أن يستعيدوا أهليتهم وإرادتهم السياسية من الجهات الفاعلة الخارجية، وأن يطوروا سردية وطنية تتجاوز تسييس الهويات وأمننتها. ولعل التذويب الطوعي لهذه الهويات، التي كانت تقليديًا معادية وإقصائية فيما بينها، هو الخطوة الأولى نحو الانتقال إلى السلام الداخلي.


[1] – بالانش، فابريس (2018)، “الطائفية في الحرب الأهلية في سورية”، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى [أونلاين]

https://bit.ly/3wmhYAJ ، ص. 11، و ليخ، (2012). سورية: سقوط بيت الأسد. لندن: منشورات جامعة يال، ص. 101.

[2] – هارلينغ (2012)، “مرحلة التطرف في سورية”، موجز سياسة مجموعة الأزمات الدولية 33 (10) ص. 4.

[3] – الدغلي، رهف (2020). التطييف كأداة في بقاء النظام. مجلة الشرق الأوسط، (2021)، 75: 1: ص.ص 9 -33

[4] – رينان، إرنست، 11 آذار/ مارس 1882. ما هي الأمة؟ محاضرة، جامعة السوربون، باريس. ترجمة.

[5] – عبدو (2013). “الطائفية الجديدة: الانتفاضات العربية وبعث الانقسام الشيعي السني”. ورقة تحليل مركز سابان لسياسات الشرق الأوسط، معهد بروكينغز، ص.ص 9 -38، وسوليفان (2014)، “حزب الله في سورية”، معهد دراسات الحرب. https://bit.ly/2ROPosJ

[6] – هاينبوش (2019)، “الطائفية والحوكمة في سورية”، دراسات في العرقية والقومية، 19 (1): ص 1-13، وهاشمي وبوستيل (2017)، التطييف: رسم خريطة السياسة الجديدة للشرق الأوسط. مراجعة العقائد والشؤون الدولية. 15 (3): ص 1-13، وفيلبس وفالبورن (2018)، “ما الاسم؟: دور الهويات (المختلفة) في حروب الوكالة المتعددة في سورية”. الحروب الصغيرة والتمردات، 29 (3): ص 414-433، ومابون (2020)، بيوت مبنية على الرمال: العنف والطائفية والثورة في الشرق الأوسط. مانشستر: مطبعة جامعة مانشستر.

[7] – الدغلي، رهف (2021)، الأمننة كأداة لبقاء النظام. مجلة الشرق الأوسط (2021) 75: 1: 9-33.

[8] – ميتزن، جينيفر، “الأمن الوجودي في السياسة العالمية: هوية الدولة ومعضلة الأمن”، المجلة الأوروبية للعلاقات الدولية. المجلد. 12 (3): 341-370.

[9] – مرجع سابق، الدوغلي (2021)،

[10] – Bashar al-Assad’s speech to the Youth “[” كلمة بشار الأسد أمام الفريق الديني الشبابي“ .47 Religious Group”], YouTube, uploaded by the Syrian Arab Republic, Ministry of Awqaf, March 6, 2017, https://youtu.be/6XCfWfOoMO8.

[11] – المرجع السابق و Bashar al-Assad’s speech to a group of ‘ulama, men of religion, mosque imams, and women religious scholars”], YouTube, uploaded by سوريا الأسد لن تركع [Assad’s Syria will not kneel, i.e., Fawaz Alsheikh Ali], April 26, 2014, https://youtu.be/bwTDf-YRGMg.

[12] – ويمن (2018)، “تطييف الحرب السورية”. في: ويري (تحرير)، ما وراء السنة والشيعة: جذور الطائفية في الشرق الأوسط المتغير، منحة أكسفورد عبر الإنترنت. ص 61 – 86

[13] – مرجع سابق، ليخ (2012)، ص. 108″.

المصدر: مركز حرمون للدراسات