الليرة والنظام ولبنان وإيران .. هكذا حصل الانهيار

حول التدهور الأخير لسعر صرف الليرة السورية:
السبب المباشر لانهيار الليرة السورية السريع، خلال الأيام الماضية، هو إغلاق المصارف اللبنانية وتوقفها عن الدفع بالدولار، حيث إن جميع السوريين المشتغلين بتبديل العملات لهم حساباتهم وإيداعاتهم في مصارف لبنان، فضلًا عن أن طريق تحويل السوريين الأفراد الأموال إلى ذويهم في سورية عبر بيروت أصبح مقطوعًا ولا يوجد طرق بديلة. وقد تسبب هذا في تراجع عرض/ توفر الدولار في السوق لتلبية الطلب عليه. ومن جهة أخرى، ليس هناك قدرة للبنك المركزي السوري على تلبية احتياجات السوق، ويأتي التصريح الغبي والاستفزازي لحاكمه، بأن البنك المركزي غير قادر على ضخ أي دولارات في السوق، ليصبّ الزيت على النار، وهذا الوضع يخلق حالة هلع في السوق، حيث توقف من لديه دولار عن بيعه، وزاد الطين بلة، وهذا يهدد بمزيد من التدهور. وقد قارب سعر صرف الدولار، يوم أمس الاثنين، حدود الألف ليرة سورية، و2400 ليرة لبنانية (سوا ربينا).

لا يبدو أن أزمة الليرة السورية مقبلة على انفراج، ولا يبدو أن القطاع المصرفي اللبناني سيفتح قريبًا، وسيبقى طريق تمويل السوق السورية وخدمتها بالدولار مغلقًا، إذ لا يبدو أن الأزمة اللبنانية مقبلة على انفراج قريب هي الأخرى. فأطراف السلطة اللبنانية الطائفية (كلن يعني كلن) متمسكة بفسادها، وتسعى إلى الالتفاف على مطالب الحراك بالتغيير، وفي الوقت ذاته تبدو الدول الغربية هذه المرة غير راغبة في منح لبنان مزيدًا من المساعدات والقروض التي دأب لبنان على الاعتماد عليها للهروب للأمام، أي استدانة جديدة لتسديد أقساط ديون قديمة، وتمويل فساد السلطة بقطاعاتها الطائفية (كلن يعني كلن) وهي، أي الحكومات الغربية، تضغط بذلك على تحالف عون و”حزب الله”، وعلى ما يسميه حسن نصر الله “العهد” الذي أغرق بيروت بالزبالة، وزاد أزمات لبنان تعقيدًا.

ومن العوامل التي لعبت دورًا إضافيًا، توسّع نطاق استعمال الليرة التركية، بدلًا من الليرة السورية، في مناطق السيطرة التركية، والمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، خاصة أن تجارة هذه المناطق هي مع تركيا، وتدهور الليرة السورية الأخير يدفع الناس إلى التخلي الواسع عن استعمال الليرة السورية، مما يفاقم وضعها. أما مناطق سيطرة ميليشيا (ب ي د) الكردية، فهي تستعمل الليرة السورية، ولكنها في هذه الأحوال ستتحول إلى استعمال جزئي للدولار، خاصة أن المساعدات الأميركية التي تدفعها السعودية والإمارات تأتي بالدولار، وتهريب النفط للخارج يتم بالدولار، كما ستميل بعض المناطق شرق الفرات إلى استعمال الدينار العراقي، أو الليرة التركية، بحسب قرب كل منطقة من العراق أو تركيا.

بشار الأسد أشار، في إحدى مقابلاته، إلى أن أحد أسباب تدهور سعر صرف الليرة التركية هو توقف تمويل “الإرهابيين” لسوق الدولار، ويقصد مناطق سيطرة الفصال المسلحة المعارضة، بعد أن أعاد نظام الأسد، بفضل الطيران الروسي، جزءًا من تلك المناطق. وهذه الإشارة، بالرغم من صحتها (لأن مساعدات إغاثية ورواتب كانت تأتي لهذه المناطق) تعني أن “النصر” الذي يتحدث عنه الأسد لا يعني الانفراج، بل يعني تفاقم الأزمة، وهذا ما يربكه ويرعبه، وقد بات الأمر جليًا، فكلما زادت “انتصاراته”؛ زادت أزماته، والسبب بسيط وهو أن الإيرادات التي تحدث عنها الأسد قد توقفت، بينما زادت أعباء قواته وإداراته الحكومية وزادت مطالب الناس.

طبعًا، خلفية الانهيار هي أن الاقتصاد السوري قد دُمّر، وموجودات الدولة استُخدمت لتمويل الحرب منذ السنوات الثلاث الأولى، وزاد الحصار حدة الأزمة الاقتصادية، والنظام يعيش منذ سنوات على الدعم الإيراني بشكل أساسي، وعلى بعض الدعم الروسي، وقد تراجعت قدرة إيران على دعم النظام، بعد إعادة فرض العقوبات الأميركية عليها، وهذه المساعدات تُسجّل كديون سيدفعها السوريون، سواء بقي النظام أم ذهب، كما استخدم السوريون مدخراتهم السابقة، سواء كانت مالًا أم مصاغًا ذهبيًا، أو عقارات أو سيارات، وتم بيعها لأغنياء/ لصوص الحرب الجدد.

خلال السنوات الأولى من الصراع، استطاع النظام ضبط تراجع سعر صرف الليرة السورية تجاه الدولار، وأبقاها في حدود متدنية، قياسًا بتأثير الصراع الدامي الكبير في سورية، ولكنه استنفد على مدى السنوات التسع قدراته كافة، كما استنفدت إيران قدراتها على مساعدته. ولا يبدو أن ثمة حلًا قريبًا في الأفق، فروسيا تقبض ولا تدفع، وإيران أصبحت عاجزة، وثورة العراق تفتح عيون العراقيين على التمويل الذي كان نظامه يرسله الى نظام دمشق، مما يسد الدروب كافة لوقف تدهور سعر صرف الليرة .

إن الأزمة الاقتصادية والمعيشة لا تُسقط النظام، ولكنها تضعف ثقة حاضنته ومؤيديه به، وتفضح “النصر” الذي وعد السوريين بقربه وبقدوم الفرج معه، بل تصبح المعادلة كالتالي: كلما ازدادت انتصارات الأسد على شعبه مستعينًا بالأجنبي؛ ابتعد التعافي الاقتصادي، وضاق خناق الأزمة على الشعب السوري. وهذا ما يجعل حاضنته تقتنع بأن بقاء النظام يعني حصول مزيد من الأزمات، بدلًا من أن يكون الحل، وأيًا كانت الأسباب، سيربط مؤيدو النظام بين بقائه وبين الأزمة، وعليهم المفاضلة، ولكن مفاضلتهم لا تسقطه، طالما أنه يستطيع أن يجد ما يدفعه للجنود المنتظمين في جيشه ولشبيحته، وطالما أن إيران قادرة على أن تمده بالعون، وهي قدرة تتراجع كل يوم كما نرى. وإذا كانت الأزمة لا تُسقط النظام، فإنها تسارع في اهتراء قدرته على التحشيد.

الأزمة لا تؤثر في حياة النخب الغنية، ونسبتها لا تزيد اليوم عن واحد بالألف، إضافة إلى طبقة وسطى مكتفية باتت لا تزيد عن عشرة بالمئة، بينما يهبط 90 بالمئة من السوريين إلى حد الكفاف، أو إلى ما دون خط الفقر والفقر الشديد، مما يدفع مزيدًا من الشباب إلى طرق أبواب الهجرة.

كان من المؤسف قراءة بعض التعليقات الشامتة بالسوريين المقيمين في مناطق سيطرة النظام تحت عبارة “دعهم يذوقون ما ذقناه تحت الحصار في الغوطة وحمص والرستن وحلب وغيرها”، لكن للأسف، من سيذوق ليس الممسكين بالسلطة ولا قيادات الميليشيات والشبيحة، بل الناس المغلوبين على أمرهم، والذين لا قرار ولا يد لهم، في حصار أو تهجير أو قتل، على الرغم من أن بعضهم قد أظهر شماتة مؤسفة بمعاناة السوريين الذين حاصرهم النظام سنوات، ولكن تقليد الشامتين بشماتة مقابلة هو ضعف وانحدار، وهي ردة فعل وليست فعلًا. وفي يوم قريب سيعود جميع السوريين للعيش معًا في سورية الجديدة، وقد أصبحت بلدًا حرًا ديمقراطيًا على إثر ذهاب الاستبداد، واذكروا هذا القول جيدًا، ولن يكون ذلك اليوم بعيدًا.

المصدر الوحيد اليوم لتخفيف حدة الأزمة على عموم السوريين هو أن تقوم العائلات الممسكة بالسلطة السورية، والتي اغتنت بشكلٍ فاحشٍ، بتمويل السوق بالدولار، مضحية بجزء مما راكمته وجمعته من نشاطاتها الفاسدة خلال خمسة عقود وهرّبته للخارج، وأموالها في روسيا ولبنان ودبي وغيرها على شكل أموال سائلة أو عقارات أو استثمارات.
سمير سعيفان
شبكة جيرون الاعلامية

قد يعجبك ايضا