باولو دالوليو المُبشَّر بالفشل (7): مقتله!

عبد الناصر العايد

لم تنقطع محاولاتي للعثور على الأب باولو دالوليو، منذ اختفائه في الرقة يوم 29 تموز 2013، وسمعت خلال هذه الفترة قصصاً غير مكتملة عن تغييبه، أو مُنتَحَلَة لأسباب انتهازية أو عبثية، إلى أن اهتديت في ربيع 2020 إلى من سيروي لي الشهادة الأكثر إقناعاً حول اختفاء الأب ومقتله. وإن كانت الشهادة تفتقر إلى دليل حسيّ، وهذا صحيح منطقيَاً، فإنني أتبنّاها لسببين. الأول، يتعلق بمعرفتي شبه التفصيلية بالظروف الخاصة لمنطقة الجزيرة السورية حينها، وهي ظروف تتوافق مع سياق ما سرده الشاهد. والثاني، هو الأحاديث المطولة مع ذلك الشاهد، والمعلومات التي جمعتها عنه، وهي تدعو للثقة في أقواله.

كنت قد عرفت بقرار باولو الذهاب إلى شرق سوريا، عندما أرسل لي عبر مسنجر فايسبوك، في 11 تموز 2013، قائلاً: “أنا بخير يا صديقي. وأنت؟ أريد أن أذهب إلى دير الزور…”. كنت حينها في إسطنبول، وكانت دير الزور تشهد الجولات الأولى من صراع تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” مع التنظيمات الجهادية الأخرى، ولم أشعر بالارتياح للفكرة. سألته عن موعد سفره، فأجابني: “قريباً إن شاء الله، عندي برنامج جديد للأورينت، عن المجتمع المدني… أريد أن ألتقي البدو.. هل يا ترى بإمكانهم أن يضمنوا حمايتي مع الفريق؟ أخطط للدخول من تل أبيض.. محبة كبيرة!”.

أجبته بأن البدو -أي عشائر المنطقة- مأمونين، لا خشية منهم، لكني حذرته من الجماعات الدينية المتشددة التي جاءت من الخارج، وهي خطرة على رجل دين مثله، ونصحته بعدم الذهاب، مع أن التهديد منخفض نسبياً، وقد أشرت بصورة واضحة لمكمن الخطر..”قد تخرج الأمور عن السيطرة”، وهذا ما حدث فعلاً.

أجابني في 16 حزيران برسالة قال فيها أن فكرة السفر تأجلت إلى النصف الثاني من آب، واوصاني بإجراء اتصالات لمتابعة مشروع ترجمة وطباعة كتابه “عاشق الإسلام..” باللغة العربية.

فوجئت في 28 تموز برسالة من مراسل صحيفة “جسر”، التي كنت أرأس تحريرها، يخبرني بوصول الأب باولو بمفرده إلى الرقة، وأنه قابله في مقهى. حاولت الاتصال بباولو، لكني لم أستطع الوصول إليه. في اليوم التالي، أخبرني المراسل باختفاء الأب باولو، وأن نشطاء من الرقة قابلوا المسؤولين عن مقر تنظيم الدولة الإسلامية في الرقة، الذين أقسموا بدورهم بأن باولو ليس عندهم. وأخبرني المراسل عن مجريات الساعات الأخيرة قبيل اختفاء باولو، وحصيلتها أنه ربما جاء إلى الرقة للتفاوض بشأن صحافيَين أوروبيَين مخطوفين في الرقة، هما بيار ونيكولا، اللذين يقال إن التنظيم احتجزهما إثر تصويرهما أحد مقاره. وأضاف أن دخول باولو كان بالتنسيق مع السفارة الفرنسية في عمّان. وأن باولو التقى في جلسة في أحد المقاهي المعروفة في الرقة، مع نشطاء، وأخبرهم خلالها أنه جاء بمهمة محددة لم يفصح عنها، وأيضاً لمشاهدة الواقع في مدينة بدأت الصحف تصفها بقندهار السورية، بعدما هيمنت عليها تنظيمات إسلامية. وأكد المراسل أن أحد كوادر المكتب الدعوي في تنظيم “داعش”، ويدعى الشيخ أبو يزيد، قد شارك في الجلسة مع باولو الذي طلب منه بشدة مساعدته للقاء “أمراء” التنظيم في الرقة. قال باولو لأبي يزيد: “طمشوا عيني وخذوني إلى البغدادي، من الضروري أن أقابله”. لم يكن أبو يزيد يعرف من هو باولو، حتى شرح له بعض الحاضرين عن الرجل ومكانته، وحثوه على مساعدته.

في اليومين التاليين، التقى باولو بمزيد من النشطاء المدنيين، وأعضاء من المكتب السياسي لحركة أحرار الشام، التي كانت أبرز الفصائل الإسلامية في الرقة. وقيل إنه التقى أيضاً بكوادر من تنظيم داعش وعاود طلبه بلقاء قائدهم في الرقة وفي سوريا عموماً.

ما حصل بعد ذلك غير معروف. في يوم اختفائه، كان باولو مدعواً للإفطار واللقاء بمجموعة من النشطاء في أحد المنازل، لكنه لم يحضر. كان ذلك في شهر رمضان. وكان من عادة باولو أن يصوم رمضان، منذ سنوات طويلة.

سارع النشطاء لإعلان خبر خطفه، مع أن مراسل تلفزيون “أورينت” في المدينة، أيهم الخلف، قال لهم بإن باولو طلب منه عدم نشر أي خبر في حال اختفائه، إلا بعد مرور ثلاثة أيام، ويبدو أنه كان يأمل بأن يأخذه مقاتلو التنظيم في زيارة سرية لأحد قادتهم. الخلف أكد أيضاً أن باولو وصل إلى الرقة بمفرده، بعدما تجاوز معبر تل أبيض مع تركيا، على متن أحد الباصات العاملة هناك. وفي لقائه الأول مع النشطاء، أفصح عن سعيه لترسيم كاهن جديد في كنيسة الرقة، بعدما طالت الراعي السابق اتهامات بموالاة النظام.

هنا تنتهي الحكاية من جهة أهالي الرقة ونشطائها، لتنتقل بكامل غموضها ومخاوفها إلى جهة تنظيم داعش، الذي توسع وتمدد بسرعة كبيرة في تلك الأثناء، حتى سيطر على معظم شمال شرقي سوريا.

(مراسَلات)

ما إن مرّ شهر على اختفائه من دون أي معلومة جديدة، حتى شرعت بالبحث عنه، فهو، حتى وإن كان في مهمة سريّة، لن يغفل عن إرسال إشارة اطمئنان لذويه ومحبيه.

بحثي عنه أخذ السبيل الذي يلائمني، فقد بدأت بالتواصل مع بعض ممن كنت أعرفهم أو يمتّون لي بصِلة قربى أو معرفة، ممن التحقوا بتنظيم داعش، وحاولت أن أعرف من خلالهم أي شيء عنه. آخر هؤلاء، صديق قديم هو الشاعر أحمد الكلش، الذي كان قائداً لكتيبة في الجيش الحر وانضم إلى “داعش” مع كتيبته التي كان يقودها، بعدما بسط التنظيم الأخير سلطته على محافظة الحسكة، وكان الشاب المثقف يعرف باولو أيضاً ويقدره، ويعرف أن اهتمامي به بدافع الصداقة والإنسانية، لا لشيء آخر. لذلك وعدني ببذل كل جهد ممكن للعثور عليه أو معرفة أي شيء عنه. في أيلول 2014، أخبرني الكلش في رسالة أن الأب باولو حيّ، وهو محتجز في سجن الشدادي جنوبي الحسكة، ووعدني بالسعي للقائه وجلب علامة أو صورة تثبت ذلك. وفي أواخر نيسان 2015، قتل الكلش بغارة أميركية جنوبي الحسكة، من دون أن يجلب أي دليل.

مساع أخرى كثيرة باءت جميعها بالفشل، تعرّضتُ فيها لمحاولات نصب واحتيال احترافية. مثلاً، عرض عليّ أحدهم أوراقاً مكتوبة باللغة الإيطالية مع صورة خاتم زعم أنه عائد للأب باولو، أرسلتها بدوري إلى شرطة الفاتيكان عبر وسيط، فأكدت أن الرسالة مزيفة، والخاتم لا يعود للأب باولو.

(خاتم ورسالة بخط اليد، نُسبا إلى الأب باولو بعد اختفائه، لكن شرطة الفاتيكان أكدت زيفهما – خاص المدن)

أيضاً تواصلت مع عدد لا بأس به من الناجين من سجون “داعش”، وأكدوا جميعاً أنهم لم يروه أو يسمعوا باسمه. وأخيراً، تابعت البحث في سجون ومعتقلات التنظيم التي سقطت تباعاً، وصولاً إلى الباغوز، آخر معاقل “داعش”، لكني لم أعثر على أي أثر أو حتى ذِكر له، بما في ذلك سجلات المعتقلين التي اطّلعت عليها.

كدت أفقد الأمل تماماً، عندما وصلني أحد زملائي بشاهد قال إنه يعرف مصير الأب باولو، وبالطبع كنت قد عرفت الكثير من هؤلاء سابقاً، وفتر حماسي لهم تقريباً، لكن حديثي مع الشاهد كشف لي على الفور بأني أمام حالة استثنائية. فهو لم يطلب شيئاً مقابل معلوماته، كما أنه كان قيادياً بارزاً في التنظيم، وحديثه مقنع إلى درجة كبيرة، وروايته هي الأكثر تماسكاً بين العشرات التي سمعتها على مدى سنوات. قمت بإجراء تحقق شخصي حول الشاهد من خلال أشخاص أثق فيهم من سكان الرقة، فأكدوا لي بأنه موضع ثقة وله مصداقية كبيرة بين الأهالي، حتى عندما كان في صفوف التنظيم.

الشاهد كان، في لحظة اختفاء الأب باولو، سائقاً خاصاً لوالي الرقة، أبو لقمان، ونائبه أبو حمزة رياضيات، وبعدها أصبح أحد قادة التنظيم في الرقة. وفي اليوم الذي اختفى فيه باولو، كان الشاهد برفقة أبو حمزة رياضيات، في مبنى محافظة الرقة، وهو مقر قيادة تنظيم داعش حينها. حينها، جاء قيادي أمني في التنظيم يدعى عبد الرحمن السهو، ليخبر أبو حمزة بأن “كساب” قد خطف الأب باولو. فسأله أبو حمزة: كيف حدث ذلك؟ فأجاب بأن الأب باولو حضر إلى مبنى المحافظة طلباً لمقابلة أبو لقمان لكنه لم يجده، فالتقى أبو إبراهيم، مسؤول مدينة الرقة، الذي اعتذر عن تلبية طلبه. فتوجه حينها باولو سيراً على قدميه، من مبنى المحافظة إلى كنيسة سيدة البشارة، وصودف ذلك مع وجود كسّاب الجزراوي، وهو جهادي سعودي، أمير ناحية الكرامة شرقي الرقة. ويبدو أن كساب كان يعلم من هو باولو، فلاحقه وخطفه مع أبو عبدالله الجزراوي، وأبو خليل السراوي، واثنين آخرين. أبو حمزة رياضيات اتصل بمقر كسّاب في الكرامة، بحضور الشاهد، وبعد نحو ساعة أجاب كساب. وعندما سأل رياضيات كساب، عن باولو، أخبره مباشرة بأنه قتله. فلامَه رياضيات على قيامه بذلك من دون علم القيادة، فأجاب كساب بأنه فعل ما فعل وانتهى الأمر، وهو جاهز للعقوبة!

أضاف الشاهد أنه، وأبو حمزة رياضيات، توجها حينها إلى بلدة المنصورة، حيث يختبئ الوالي أبو لقمان في سدّ البعث، وأخبراه بمقتل الأب باولو. وأكد الشاهد أن أبو لقمان “استشاط” غضباً عندما سمع ذلك، وطلب بسجن كساب في الحال.

تم توقيف كساب في السجن الخاص في مركز المحافظة، ويقول الشاهد أنه لم يُسجن فعلياً، بل وضع في غرفة الحراسة، وفي تلك الأثناء تردد عليه أكثر من مرة لشرب الشاي، وسأله في إحدى المرات عن سبب قتله باولو. فقال كسّاب أن هذا الرجل خطر علينا، فهو يسعى إلى توحيد الفصائل لمواجهتنا، في إشارة ربما إلى الصراع المحتدم حينها بين تنظيم داعش من جهة، وتنظيمات أحرار الشام وجبهة النصرة وكتائب من الجيش الحر من جهة أخرى. أما عن كيفية قتله، فقال كساب أنه طلب من أعوانه أن يحفروا له حفرة بينما كان يستنطقه، وقد قال له الأب باولو في تلك الأثناء أنه لا يجوز له قتله، فهو كاهن وقد جاء نهي واضح في القرآن عن قتله، كما أنه ضيف ومستأمن لا يجوز الاعتداء عليه، لكن كساب لم يستجب لما وصفه بـ”الخداع الخبيث”.

في الربيع الماضي، تمكنتُ من تأليف فريق محلي، توجه إلى المنطقة التي يعتقد الشاهد أن باولو دفن فيها، وهي صحراء بين مدينة الرقة وبلدة الكرامة. وقد عثر الفريق على قبور متعددة لمجهولين، لكنها في معظمها كانت قبوراً رسمية وفق الشريعة الإسلامية، وليس محتملاً أن يكون جثمان باولو قد دفن في أي منها.

جثمان باولو، ما زال ينتظر من ينتشله، وربما من يعيده إلى الحياة بوصفه فكرة ورسالة، ومغامرة إنسانية ووجودية، ربما لم يكن لها أن تنتهي على هذا النحو.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا