تروما٭

جسر: نص:

١.

رفعت يديّ مستسلماً، اللصّ طاردني طويلاً، المسكين صرف من أنفاسه الكثير. الزقاق فارغٌ؛ الشارع فارغٌ؛ الجادة فارغةٌ؛ هذا الإطار المدنيُّ فارغٌ. اللصُّ يعلوني قليلاً، فهذا الشارع الاسطنبوليّ مثل إخوته وأخواته منحدرٌ. كان مجرّدُ سوء تقدير بسيطٍ مني قد قادني إلى هذا الشارعِ المغلق. ما لا تعلمونه يا غُواةُ، أن سحرَ اسطنبولَ الذي تسمعونَ عنه سِحرُ المشعوذاتِ، فالمدينة كبرتْ مثل اليتامى، ولم تروّضها سياطُ الهندسة، بحيث أن مجرّد سوءِ تقديرٍ فيزيائيٍّ بسيطٍ، أو اعتماداً عفويّاً على ذاكرة العمران٫ِ فيكَ، قد يقودك إلى ساعةِ مشيٍ إضافيّة (مخبولٌ من يثق بذاكرته)، وكي يكتمل لَيْلُكَ ستفاجئُ بجهازك الخليويّ ينطفىءُ عن الخريطة، إنّك الآن تائهٌ تماماً.عند هذه اللحظة، وكأنّ قمر دراكيولا اكتمل، تدبّ فيك غريزة الحيوان، هيّا استرخِ واترك لجسدكَ حَدْسَ الاتجاهات، حاولْ مع أنني أعلم سلفاً يا صديقي أنّ حيوانكَ بين الموتِ والحياةِ مثل كلاب اسطنبول البليدة. هنا ستعرف كم خسِرْتَ من غريزتك، فغريزتكَ ليستْ انتصابات القضيب، إنها تَعُيّنُكَ في المكان، إحساسكَ، بقطبِ الهجرة، وإدراك جلدكَ أسيكون اليومُ ماطراً أم غائماً، أم مشمساً، وإدراك أنفك جهة البحر، و جهة الدخان، و جهة البناء القديم، وتاريخ نشر الإسفلت على كل شارعٍ.

أمرني اللصُّ برفع يديّ وإلا أطلقَ في رأسي؛ رأسي الذي أطاقَ جسدي حمله سبعاً وثلاثين عاماً، ومع أن رأسي يدّعي أنه يتمنّى لحظة تفجّرهِ هذه، ومع أن جسدي ما بَرَحَ يعصي رأسي وما بَرحَ يصرخ في رأسي أن يتركه وشأنه امتثلْتُ ورفعت يديّ، لم أجرؤ أن أستدير، لكنني عرفتهُ من صوته، ومن رائحته، إنه اللص الذي يدّعي منذ ستّة أعوامٍ ونصف أنّني سرقته، وانا أدعي أنه لم يكنْ كي أسرقه

٢. تذكّرْ أجمل ما عشته! (1)                  

أغمضتُ عينيّ، لم أجد سوى بيت جدّي، هناك لا شكوك تكتنفني؛ الأرضيّة الرصاصيّة، وجسدي يلتصق بها فاراً من حرّ تمّوز، مستمعاً بلعبة الالتصاق بالأرض، دون حصيرةٍ، ودون فراشٍ، كأنّه يعود إلى غريزته الأولى. تنكاتُ الحوشِ أصاصيصُ وردٍ، لم تمنعها أسماء الماركاتِ من أن تصير نوستالجيا!، ثم تذكّرتُ الغرفة المجاورة التي قلّما فُتِحتْ، موصدةٌ تـتهيّء لزواٍر قادمين دون سابق إنذار. وفي أسفل الحوش قضبان الشبابيك في القبو، ورائحة مطاطٍ قديم.

ثم تناهى إليّ وقع قدميّ في الحصى في قرى أصدقائي؛ صوت فلاحين أكرادٍ لا يبدون لي ثرثارين وفضوليّين، فالأماكن تفوح جمالاً إن كنت سائحاً، هنا لا أرفع عنقي كثيراً كي أرى السماء، هي سماءٌ وهي أرضٌ، ورائحة قشٍّ محروق، وصوف ماشيةٍ وروثٌ، وأصوات جرّاراتٍ زراعية

لم يحمل هذا الرأس الذي تكلّفَ جسدي عناءه سبعاً وثلاثين عاماً أكثر من مشهدينِ اثنينِ، مثل فلمٍ قصير قصيرْ، تكوّرت فيه مثل جنين في الرحم، أغمضت عينيّ أشمّ الذكرى، أحس التفاصيل تمرّ من جفوني، كتفيّ، عيوني، بطني، كأن يداً حنونةً تمرّ على جسدي كله.

٣. تذكّر شيئاً نَغّصَكَ! (2)       

أغمضت عينيّ، أُطبِقَ عليَّ البابُ، رائحة السجنِ، رائحة البطّانيات العفنة، بشرٌ غريبو الوجوهِ يسألون أنفسهم ما الذي جاء بهذا الرجل إلينا، لم أكدْ أغيب في الذكرى، حتى تساقط عالمي كأنه سحبوا البساط من تحته، حجارته تضرب كتفيّ، قفز الجاثوم على صدري، ضَغَطَ صرختُ وصرختُ، ثم رأيت نفسي في الصحراءِ، بسروالي القصير، السيارةُ البيضاءُ تغيبُ، وصدّقتُ أنّ أبي رحل، أهو غباءُ الطفل أم سعة المخيّلة؟ دقيقةٌ أو دقيقتان، قلّبت كل احتمالات القصص التي قرأتها، قلبت احتمالات وحوش الصحراء لم أتذكر سوى الذئب، ولم أستطع أن أتذكر الجمل ولا قرية الأفناكِ(3)، وفكّرتُ أن أمشي كي أعودُ إلى بيتي، لكنّ قدمي غاصتا في الكثيب وتسمّرتُعادت السيّارة، لم أتذكر أكانت مزحة أبويّةٍ ثقيلة أم شدّة أذنٍ على ذنوب أُسريّةشوفة عينك، نسيتُ الكثير أيها اللصّ فاعذرني إن لم أتذكّرك، لكن هو ذا جسدي يتذكّرك، ألم يعرفك من رائحتك؟. رأسي حاول أن يتذكّرك لكنه مهمومٌ بنفسه. ما رأيك أن نتناوب؟ ساعةً أكون أنا وساعةً أكون أنت؟ ما رأيك؟ مارأيك؟.. تعبتُ منكَ تتعقبني، وتعبتَ أنتَ من لهاثكَ ورائي، لم أنساك ولم تنسني، بيننا حبٌّ دائمٌ وحتى كراهيتنا كراهية العاشق المهجور المغبون. ما رأيك لو نتواجه بمسدسين ونطلق في نفس الثانية؟. لا قاتل ولا مقتول، ونذهب معاً يداً بيدٍ مثل ولديْن مطيعينِ عاقليْنِ، .. لم تزل المفاوضات جارية، فيبدو أن كلانا يحبّ الحياة!.

 

(1) (2) المقطعان يتحدثان عن أحد التمارين المطبقة ضمن منهجية  “إزالة حساسية حركة العين وإعادة المعالجة ( للذكريات المختزنة)” Eye movement desensitization and reprocessing.

(3) الأفناك مفردها فنك، وهو نوع من الثعالب الصحراوية الجميلة والصغيرة الحجم، تشتهر صحراء الجزائر بهذا الحيوان، وهناك قضى كاتب السطور بعضاً من سنوات طفولته المبكرة.

٭النص يتحدث عن اضطراب الكرب التالي للصدمة النفسية  post traumatic stress disorder ، حيث عانى كاتب هذه السطورة من هذا الاضطراب في خضم الحرب السورية.

٭٭كاتب ومترجم سوري

قد يعجبك ايضا