تقاذفُ اللاجئين بوصفهم عاراً

جسر – صحافة

لا يُعرف عدد السوريين “مثلاً” الذين ماتوا من البرد، أو ربما برصاص العسكر على واحد من طرفي الحدود البيلاروسية-البولندية. في الجهة الأخرى من الاتحاد الأوروبي، يوم الأربعاء الفائت، غرق في بحر المانش 27 لاجئاً سعوا إلى مغادرة “النعيم” الفرنسي إلى وجهتهم الإنكليزية التي يتوسمون بها الأفضل. لندن غاضبة من باريس، وتتهمها بالتراخي عن ضبط حدودها، وتشير إلى 22 ألف لاجئ عبروا المانش إلى أراضيها منذ بداية العام. الاتحاد الأوروبي بدوره غاضب من بيلاروسيا التي أصبحت نافذة لتدفق اللاجئين إليه عبر الحدود مع بولندا، الأمر الذي يفسد على حكوماته ما بذلته من جهود لضبط الحدود من جهة البحر المتوسط.

بلا حياء للتستر خلفه، ما يحرّك الموقف من قضية اللاجئين هو هذا النوع الانتهازي السافل من الأسئلة: كيف نتخلص منهم؟ كيف ننجو بعدد أقل منهم؟ كيف نرشو حكومات الدول القريبة من “المنبع” كي تحتفظ بهم بالقوة، فلا نضطر إلى تشويه سمعة أوروبا باستخدام القوة على حدودها؟

الاقتصاد غير غائب عن الأسئلة السابقة، وفي كتابه يظهر فارق الكلفة بين إيواء اللاجئ في أوروبا وتقديم رشى لحكومات غير أوروبية للاحتفاظ به. جزء من آليات تقديم الرشوة أن تستفيد منها حكومات فاسدة هنا أو هناك، فلا تذهب المساعدات بأكملها إلى محتاجيها، لذا من الخطأ لوم أولئك الفاسدين وحدهم وكأن الحكومات الغربية بريئة ولا تراقب أوجه صرف هباتها. ثمة مال سياسي تتبرأ الحكومات الغربية من فساده، رغم أنها تجري مفاوضات المقايضة القذرة الخاصة به على الملأ، وعندما تكسب به إغلاقاً للسبل أمام اللاجئين تقدّم ذلك كإنجاز لها.

فوق الكلفة الاقتصادية المتدنية للاجئين في مخيمات الأردن ولبنان وحتى تركيا، يمكن أيضاً إبقاؤهم دون الحد الأدنى المقبول إنسانياً، وتوفير أموال إضافية من دون ثمن أخلاقي. سيتم تقاذف المسؤولية عن مأساة المخيمات المتواصلة، وثمة مآس دورية كالتي تحدث مع كل شتاء لا يتم التحوط لها، فالمهم بقاء هؤلاء مجردين من أية حقوق تلتزم بها جهة محددة، وتخضع للمحاسبة جراء تقصيرها.

والتنكيل باللاجئين ليس هواية بلا هدف، هو موجَّه لأولئك الذين تسوّل لهم أنفسهم الانضمام إلى ركبهم. الرسالة هي، للفئات الأضعف أكثر من غيرها: انظروا إلى حال من سبقوكم واعقلوا، ابقوا في أماكنكم وتحملوا ذلكم وبطش الحاكم مهما بلغ من الوحشية، فهذا أضمن لكم من المرور إلى الغرب. التشدد على الحدود يرفع الأسعار التي يطلبها المهرّبون، إنها ميزة إضافية لردع شرائح واسعة بسبب فقرها المدقع، أو إفقارها، لا يهم.

ثم علينا، بقوة الإعلام الغربي، الاعتقاد بأن قضية اللاجئين تضرّ بالحكومات الغربية التي تبرم هذه المقايضات، لأن تدفقهم يرفع من الأسهم الانتخابية لليمين المتطرف والشعبوي. هكذا، يكاد يصبح المطلوب منا إنقاذ تلك الحكومات من خطر المتطرفين، لا إنقاذ أولئك البؤساء المسحوقين من العديد من الجهات. إلى جانب ذلك، ستطل الآراء التي تذكّر بأن الشعوب التي تعاني من بطش الحكام ليست من مسؤولية الغرب، إذ عليها وحدها مسؤولية تغيير أحوالها بحيث لا تضطر إلى اللجوء. يبدو الرأي الأخير مخصصاً لأصحاب نظرية المؤامرة، فهم بتبسيط أشد منه يحيلون كل ما يحدث إلى مؤامرة غربية شريرة محكمة يستحيل الإفلات منها.

على صعيد لا يبدو وثيق الصلة بما سبق، دعا بايدن قادة مئة وعشر دول للمشاركة في القمة الافتراضية المخصصة للديموقراطية، الشهر المقبل. بين الدول المدعوة هناك فقط دولة عربية هي العراق، ما يعكس نظرة أمريكية مفادها عدم وجود استحقاق الديموقراطية في أي من الدول العربية، بل اليأس من إمكانية وجوده جنباً إلى جنب مع إعلان واشنطن تخليها عن بناء الدول، أي عن نشر الديموقراطية في الخارج.

الطامة الكبرى عندما يبتز من هم أكثر وحشية، كما في مثال بشار الأسد، الغربَ بقضية اللاجئين من أجل التطبيع سريعاً معه، بعد قبول الغرب مبدأ إعادة تدويره. أبعد من طاغية صغير، يطبّع الغرب بدرجات متفاوتة مع بوتين الذي يقود دولياً سياسة مناهضة للديموقراطية، من دون التوقف والتفكير لبرهة في أن نجاح بوتين في أكثر من مكان سينجم عنه تدفق اللاجئين منه. في الأصل، بدءاً من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن، كان النظام الروسي “الشيوعي ثم البوتيني” المصدّر الرئيسي للاجئين، من البلدان التي حكمتها روسيا مباشرة أو بشكل غير مباشر، أو من البلدان الدائرة في فلكها.

ليست فقط حكومات الوسط أو يمينه أو يساره ما يحتفظ بعلاقات طيبة مع بوتين، بل يتوق اليمين المتطرف والشعبوي “المعاديان للاجئين” إلى علاقات أفضل معه، ولا يُحرج بعض أقطابه ونظرائهم من اليسار المتطرف أو الشعبوي إعلان الاصطفاف مع مرتكب إبادة وجرائم ضد الإنسانية مثل بشار الأسد. الأنكى هو اعتبار المتسبب بالمشكلة “اللاجئين” مفتاحاً لحلها، على قاعدة التفاهم معه من أجل ضبط أكبر لحدوده، بحيث يعجز عن عبورها الرهائن الواقعون في قبضته. تكاد تكون ترجمة ما سبق لوم الطاغية لأنه لم يبذل جهداً كافياً لمنع اللجوء، لا لأن وحشيته تسببت به.

لتبرير تلك السياسات لا يتورع البعض عن التركيز على البعد الإنساني لقضية اللجوء، ثم الاقتصادي الذي يُظهر اللاجئين طامعين في “الرفاه” الأوروبي، لا بوصفهم ضحايا استبداد مركب من السياسي والاقتصادي وسواهما. المهم لدى الشريحة المسيطرة على السياسات الغربية عدم الاعتراف بأنهم يستسهلون التعامل مع الطاولة مقلوبةً، بدل الاعتراف بأنها كذلك، والإقرار بأن الحل الجذري للمشكلة لن يستقيم ما لم يبدأ من التعاطي معها من مسبباتها السياسية، فاللاجئ ليس “في أحسن التصورات” كائناً يستحق الشفقة، إنه “في الحد الأدنى” إنسان يستحق أن يكون حراً في بلده.

واقعياً، لن تحدث القطيعة بين الغرب والبلدان المصدِّرة للاجئين، هذه مراهنة كاذبة وثبت خطؤها لمرات. أي أن الغرب منخرط، شاء أم أبى، فيما يحدث في تلك البلدان، وعلى نخبه السياسية تجربة طرائق تفكير أفضل من تلك التي ثبت فشلها، وإثارة نقاشات عامة أبعد من النقاش المبتذل حول اندماج أو عدم اندماج اللاجئين. فمطالبة اللاجئ بالاندماج تكون من موقع أقوى عندما لا يُستقبل قاتل أهله بحفاوة في بلد لجوئه، وعندما تكون هناك مساعدة على التغيير الديموقراطي في بلده ويرفض العودة إليه، أي عندما يكون خيار بقائه شخصياً لا سياسياً.

بالطبع ما ينسحب في ما سبق على المثال السوري لا يقتصر على السوريين، فاللبنانيون شرعوا في رحلة لجوء جديدة، وكذلك هو حال الأفغان، فضلاً عن النزيف الشيشاني المستمر وسواه من الأمثلة. تقاذفُ اللاجئين بين الدول بوصفهم عاراً يريد الجميع التخلص منه لن يحل المشكلة؛ إنهم حقاً بمثابة عار على البشرية، عار على أولئك القادرين، عار على عقولهم وطرائق تفكيرهم قبل أن يكون عاراً على ضمائرهم.

المصدر: موقع المدن

قد يعجبك ايضا