حلف “أستانة” بمواجهة واشنطن في شرق سوريا

عبد الناصر العايد

لا تتوقف أو تهدأ التحركات الإيرانية والروسية في شرق سوريا للتضييق على القوات الأميركية ودفعها للانسحاب، وقد انضمت إليها مؤخراً في هذه الجهود تركيا، والهدف شبه المعلن الذي لا يخفى على أحد للعمليات المتصاعدة هو إثارة الفوضى وزعزعة الأرض تحت القوات الأميركية وتعكير الأجواء في سماء منطقة العمليات، وتعقيد المهمات الاستخبارية، وصولاً الى بلوغ القادة الأميركيين الاقتناع الكافي بأن قواتهم في سوريا معزولة وتواجه خطراً داهماً واستصدار أمر بسحبها.

يتلخص دور إيران في الأحداث الجارية بعبارة العقل المدبّر، فهي الأكثر نفوذاً والأكثر احتياجاً رمزياً وعسكرياً لانسحاب أميركي من المنطقة وتوسيع ممرها البري إلى البحر المتوسط، وهي قامت بعملها بصبر وهدوء طوال السنوات الماضية، توّجته بصنع تحالف يضم أطراف أستانة، ايران وروسيا وتركيا، وتوحيدها وراء هذه الغاية.

لكن إضافة إلى هذا الدور السياسي وقبله، عمل الحرس الثوري الإيراني على تهيئة الميدان من النواحي العسكرية والاستخباراتية، واستعداده لهجوم بري عبر تكديس الأسلحة والمعدات واستجلاب أعداد كبيرة من المقاتلين من العراق ولبنان وأفغانستان وتجنيد متصاعد للسكان المحليين.

ويبدو أن أخطر أدوارها تمثل بالنجاح بتجنيد عدد كبير من الخلايا في منطقة النفوذ الأميركي شرق الفرات من القبائل العربية ومن المكون الكردي ذاته للعمل لصالحها، وتوتير الأجواء بين العرب والكرد وإدخال المنطقة في نفق من الصراع القومي العرقي الدامي، والذي يفقد القوات الأميركية السيطرة على المجتمعات المحلية والثقة بها والانكفاء إلى داخل قواعدها المتناثرة على ضفة الفرات ما يسهل تقدم الميليشيات الإيرانية وحلفائها المحليين من العشائر العربية عندما تحين ساعة الصفر.

هو الأمر الذي نجحت بإنجاز شوط كبير منه من خلال إحداث صدام غير مفهوم وغير مبرر بين المجلس العسكري لدير الزور المكون من عشائر عربية ومجمل “قوات سوريا الديمقراطية” التي يسيطر عليها الأكراد، ونجم عنه قتلى وجرحى، خرجت على أثره مجاميع مسلحة لا يعرف عنها انتماؤها سابقاً إلى أي قوة عسكرية أو سياسية في المنطقة، بمهاجمة نقاط عسكرية لـ”قسد” وإزالتها من المنطقة التي تحولت إلى مسرح سائب غير مسيطر عليه.

وبينما تقوم الميليشيات الإيرانية بدورها هذا على الأرض، بدأت روسيا بلعب دور مماثل في السماء، من خلال اعتراض ومناكفة الطيران الأميركي العامل في الأجواء السورية الذي وصل إلى حد تعطيل طائرة مسيّرة أميركية بإلقاء قنابل ضوئية فوقها أدت إلى تلف محركها، وهذه مجرد مقدمات لإغلاق المجال الجوي الخاضع لروسيا في سوريا بوجه الطيران الأميركي عندما تقرر واشنطن شن ضربات انتقامية على مقرات وقواعد الميليشيات الإيرانية مستقبلاً، وارباك تلك الضربات إن لم تتمكن من منعها، كما أن هذا الاحتكاك والصدام في الأجواء يمثل عامل خطورة إضافي يمكن لمقرري البنتاغون أن يضيفوه إلى الأسباب التي تدعوهم لوصف وضع قواتهم في سوريا بالخطر جداً، مع احتمال العجز عن حمايتها جوياً والتفكير بسحبها من هناك كخيار لا بد منه.

أما الدور التركي المفاجئ في هذه الترتيبات، فيتمثل بالإيعاز لقوى عربية مرتبطة بها في شرق سوريا بتأجيج الصراع مع كوادر “حزب العمال الكردستاني” ودعم الجانب الإيراني استخباراتياً بحكم إلمامها بالوضع في شرق الفرات، ويبرز هنا اعتراض يرتكز على التحسن الملحوظ في العلاقات الأميركية التركية في الآونة الأخيرة، لكن هذا الاعتراض يتجاهل ويتناسى أن الخلاف الأميركي التركي حول حماية “حزب العمال الكردستاني” في سوريا لم يحلّ بعد، وأن موقف انقرة منه يختلف عن مواقفها الأخرى، فالحزب هو التهديد الأول لأمنها القومي من منظورها، وتشاركها ايران هذا القلق.

أما قوات النظام في المنطقة، فدورها يقتصر على دعم الميلشيات الإيرانية واسنادها، وتقديم نفسها لاحقاً كغطاء “شرعي” للسيطرة الإيرانية والروسية. ودور الاسناد هذا يقوم به جناح من كوادر “حزب العمال الكردستاني”، لا يثق بواشنطن ويميل إلى فرض الروس والإيرانيين سيطرتهم على شرق الفرات، والتحالف معهم في وجه الاتراك.

إزاء هذه التطورات، اتخذت القيادة الأميركية جملة إجراءات احترازية واستدعت المزيد من القوات إلى المنطقة الشرق الأوسط، فهي تعلم أن اشتباكاً مع الميلشيات الإيرانية في سوريا سوف تتبعه سلسلة هجمات تمتد من اليمن مروراً بالخليج العربي والعراق وسوريا ولبنان، وربما في مناطق أخرى غير متوقعة وبطرق غير مسبوقة ايضاً، وهو ما يعقّد المهمة ويدفع الإدارة إلى إطلاق تحذيرات متسارعة للجانب الإيراني لردعها عن القيام بهذه العملية الخطرة، كان آخرها تسريب المجمع الاستخباراتي الأميركي وثائق لصحيفة “نيوزويك” عن “فرقة الامام الحسين”، والتي تقول بوضوح إن البنتاغون يعرف على نحو تفصيلي ما تخطط له إيران وهو مستعد للرد، وتأمل واشنطن من خلال ذلك ردع إيران عبر تحذيرها من العواقب والخسائر التي ستترتب على مغامرتها هذه.

من نافل القول إن ايران لن تأبه لحجم الخسائر مهما بلغ، فهي تقاتل بمرتزقة لا بإيرانيين، ومن حشدتهم في دير الزور مثلاً، ويتوقع أن يكونوا موضوع مجزرة أميركية محتملة، هم من أبناء عشائر المنطقة الذين تدفعهم أمامها تحت شعار المقاومة المحلية لطرد الاحتلال الأميركي، يُضاف اليهم عناصر ميلشياتها متعددة الجنسيات من لبنان والعراق وأفغانستان، كما أن الخسائر على الجانب الآخر ستكون بغالبيتها العظمى من أبناء العشائر العربية الموالية للأميركيين، وباختصار ستسفر العملية المحتملة عن نكبة جديدة للمكوّن العربي، وهو واحد من ابرز اهداف ايران الاستراتيجية في تلك المنطقة المناهضة لها بشدة.

المؤسف هنا، هو الغياب الكامل للدول العربية، فلا هي عابئة لمصير سوريا المرتبط بمصير كل المشرق العربي بشدة، ولا هي تمارس بديهيات الاشتباك سياسياً في قضايا الجوار التي يمكن التأثير عليها لانتزاع مكاسب مهما كانت بسيطة، وهو ما يصعّب ويعقّد حالة السوريين المتروكين بلا حليف ولا راع ولا قيادة.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا