كيف تحوّل انفجار بيروت معركة وجودية للنظام الأسدي؟!

وليد بركسية

جسر: متابعات:
حوّل إعلام النظام السوري، قضية انفجار مرفأ بيروت، إلى معركة وجودية زج بها نفسه بعدما وجد فيها فرصة للهروب من الضغوط المحلية التي حاصرته خلال الأشهر الماضية، والتي تبدأ بانهيار سعر صرف الليرة السورية وأزمة فيروس كورونا، ولا تنتهي عند الاحتجاجات التي شهدتها محافظات سورية مطالبة بالإصلاح والتغيير السياسي.

وفيما أثارت التصريحات الرسمية حول إمكانية فتح المشافي السورية أمام المصابين اللبنانيين في انفجار بيروت الهائل، غضباً في مواقع التواصل بين الموالين للنظام، ليس من جانب رؤية عنصرية ترفض مساعدة الجارة المنكوبة، بل من منطلق غاضب يطالب النظام بتقديم الخدمات الأساسية لمواطنيه قبل تقديم هذه المسرحيات البطولية أمام الكاميرات، كان الإعلام الرسمي منشغلاً بتقديم نظريات المؤامرة التي كان همها الأول تبرئة ساحة “حلفاء الدولة السورية” من مسؤولية الكارثة.

وقدمت القنوات والصحف الرسمية تحليلاً، الخميس، تحدثت فيها عن أن مادة نيترات الأمونيوم التي انفجرت في العنبر 12 بمرفأ بيروت، لا يمكن أن تنفجر من تلقاء نفسها (الإخبارية السورية) وأن الحريق الأولي الذي أدى للانفجار كان مفتعلاً من أطراف معادية لـ”المقاومة” من أجل تحقيق أجندات الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية الأخرى، وذلك بالتنسيق مع عملاء لبنانيين حسب وصف المحطة.

واللافت أن الإعلام السوري عمد إلى تقديم اتهامات بأن التفجير جرى بفعل فاعل، وهي اتهامات لم تصدر إلا من طرف مسؤولين إيرانيين، حيث لم يستبعد رئيس منظمة الدفاع المدني الإيرانية، غلام رضا جلالي، الأربعاء “احتمال أن يكون انفجار مرفأ بيروت ناجماً عن فعل متعمد من قبل أعداء جبهة المقاومة”، بينما اعتبر مدير دائرة الشؤون الدولية في البرلمان الإيراني، أمير حسين عبد اللهيان، أن هناك أطرافاً خارجية مستفيدة من انفجار مرفأ بيروت، وهي تصريحات ما زالت حاضرة بكثافة في الإعلام الرسمي وشبه الرسمي.

وبشكل مماثل لما قدمته قناة “أو تي في” في الساعات الأولى للانفجار، ومحللون على شاشة “الميادين”، كررت القنوات السورية الحديث عن أن حمولة مادة نترات الأمونيوم كانت متوجهة إلى “الإرهابيين” في سوريا، وأن ضبطها في بيروت كان لمنع تحويلها إلى هناك! رغم أن هذه الرواية الكاذبة فندت ليس فقط في الصحافة العالمية التي قدمت القصة الحقيقية للباخرة الروسية التي حملت الشحنة القاتلة نحو موزمبيق قبل توقفها في بيروت قبل نحو 6 سنوات، بما في ذلك صحيفة “نيويورك تايمز” التي أجرت لقاءاً مع قبطانها بوريس بروكوشيف، بل أيضاً من طرف المسؤولين اللبنانيين أنفسهم.

وقفزت “الإخبارية السورية” إلى استنتاجات هزلية تقول بأن أطرافاً عربية تتحمل مسؤولية الانفجار في بيروت، من أجل إلقاء اللوم على حزب الله، لأن الحزب قدم مواقف مشرفة للإسلام والعرب بعكس أنظمة حاكمة، ما يستوجب تشويه مسيرة محور المقاومة!

وتفاقمت الكوميديا لاحقاً بالقول أن إسرائيل نفذت انفجار بيروت كردّ استباقي على صفقة أسلحة مرتقبة بين طهران ودمشق سترعب الأميركيين أنفسهم وتمنعهم من الطيران فوق “الإقليم”.

الأمر تكرر في صحيفة “الثورة”، التي قالت في افتتاحيتها أن الانفجار يتعدى الجانب الاقتصادي الذي انشغل به السوريون في مواقع التواصل، لتفسر صحيفة البعث التابعة للحزب الحاكم، أن الأهم هو الجانب السياسي والأمني، معتبرة أنه أتى من أطراف لبنانية منخرطة “حتى العظم في مشروع نزع سلاح المقاومة”، واستثمار ذلك سياسياً، وهو ما يجب الوقوف في وجهه، ويشكل أهمية لـ”الدولة السورية” على حساب الاقتصاد السوري.

وعبر هذا الأسلوب من الهروب إلى الأمام، يدافع النظام السوري عن نفسه وعن حليفه الأقرب حزب الله، بشراسة أقرب للطيش، عبر تصديره للاتهامات الموجهة إليه نحو طرف ثالث يعتبره عدواً يوازي الشر الأكبر أيديولوجياً، ومسؤولاً عن كافة الشرور والجرائم والاضطرابات والمشاكل حول الكوكب وخلال التاريخ أيضاً، وذلك ليس إلا أسلوب تعميم تقليدي في بناء خطاب البروباغندا. يتم تدعيمه بوجهات نظر، محرفة أو حقيقية، من داخل النظام المستهدف، أي الولايات المتحدة، مثل تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأولى بعد الانفجار، عندما نسبه إلى هجوم، تحول في الإعلام الرسمي لاحقاً إلى هجوم أميركي لمح إليه ترامب فقط!

وكان بإمكان الإعلام الرسمي الاكتفاء بالرواية الرسمية اللبنانية التي لا تلقي بالمسؤولية على سلاح حزب الله وتحكمه في البلاد، بموازاة إلقاء اللوم على الإهمال والفساد اللبناني المتراكم، إلا أن ذلك لا يكفي على الأغلب لبناء دعاية متكاملة تكون موجهة للجمهور المحلي بالدرجة الأولى، حيث وجد الإعلام الرسمي في الحدث اللبناني فرصة مثالية للابتعاد عن الضغط الشعبي والانتقادات المتكررة التي تطال النظام وحكومته بخصوص الخدمات المتردية كالكهرباء التي تخضع لتقنين شديد، وأزمات فيروس كورونا وملفات الفساد، بالقول أن “القيادة الحكيمة” منشغلة بأمور أهم من الواقع اليومي الذي يجب الصبر عليه.

هذا الموقف ليس جديداً بل هو جزء من سياسة إعلامية قديمة، تقضي دائماً بإيجاد مشاكل خارجية وقضايا أيديولوجية أهم من “تفاهات” الكهرباء والخبز والأمن والصحة والبنزين وغيرها، وتطالب المواطنين بالصبر من أجل الوصول إلى الاستقرار بعد هزيمة الأعداء في الحرب الوجودية، وفيما كان ذلك العدو المتخيل مقتصراً على إسرائيل وبدرجة أقل الولايات المتحدة والدول الغربية، قبل العام 2011، فإن النظام السوري تفوق على نفسه في اختراع الأسباب التي يقدمها في نفس الإطار بعد ذلك التاريخ.

ويجب القول أن بحث النظام عن أعداء خارجيين بشكل دائم، يتقاطع مع حاجة ملحة أخرى هي البحث عن شرعيته المفقودة أمام البيئة المحلية له. فالنظام منذ تأسيسه العام 1970 قام على انقلاب عسكري بقيادة الرئيس السابق حافظ الأسد، وطوال سنوات حكمه كان الجيش هو منبع الشرعية الوحيد للدولة السورية، حيث تمت عسكرة المجتمع مع خلق أعداء ومؤامرات تحاك حول البلاد بسبب موقفها “المقاوم”، ما يشكل مبرراً سهلاً لأي انتقادات محلية، تتعلق بالاقتصاد المتعثر والفقر المنتشر، والذي يعود أصلاً لقرارات رسمية تمنهج سرقة السوريين واستغلالهم.

المصدر: المدن 6 آب 2020

قد يعجبك ايضا