كيف يعيش الشباب في شرق الفرات؟

شفان إبراهيم

جسر:صحافة:

كعموم سوريا، أصبح واقع الشباب فيما تبقى من شرق الفرات /بكُرده وعربه وسريانه وأشوريه، والنازحين إليه/ ليس أقلّ من نظرائهم في باقي المناطق والدول العربية، بؤساً وفقراً وضياعاً؛ نتيجة يأسهم من المرؤوسين وفقدان أيّ أملٍ بمستقبل يقوده نُخبة من الفاسدين، ممن لا يهتمون بحال غيرهم سوى الشعارات والوعد الكاذبة. عدا فقدانهم –الشباب- لروح المقاومة والبقاء ويأسهم في مسعاهم للبحث عن أدوات العيش المحترم. لسان حال الشباب: “ما عاد مهماً سوى كيف نصبح كأقراننا من الدول الأخرى التي نشاهد أنماط عيشهم عبر السوشال ميديا”.

خاصة أن حركات الربيع العربي ساهمت بتشكيل ثلاث نمطيات جديدة للفكر الشبابي في شرق الفرات، أولها: كسر القوالب الجامدة وإيجاد مساحات جديدة للجدال بين الشباب وغيرهم من الأجيال الأخرى، حول عالمية حقوقهم ومطالبهم، ومدى توافقها أو تعارضها مع الثوابت الحزبية في المنطقة. وثانيها: أوجدت توجهات جديدة ترافقت مع النمطية الأولى، من قبيل التسليح ودور السوشال ميديا. وثالثها: منحت الشباب أحقية تفجير أيّ سدود أمام الاستفسارات الشبابية التي كان الخوف أو الجهل، أو التابوهات السياسية والحزبية، أو حتّى العرف المجتمعي تتكور جميعها لتحريمها وتفخيخها –الأسئلة- وعدّها خطوطاً حمراء ممنوعة التداول بين الشباب أنفسهم، أو مع “الحرس القديم”، مثلاً أين ماضون؟ وهو سؤال الهم الشبابي، ومتى موعد تنفيذ الوعود، والحلم بنوعية من التعليم الجيد، ومشاركة الشباب في القرار السياسي، وتحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي، عوضاً عن زجهم في الصراع الحزبي فحسب.

قابل تلك النمطيات، ومع إطالة أمد النزاع في سوريا، وعدم بلورة أيّ أفقٍ للحل السياسي، خلق خمس ردات شبابية عنيفة أثرت في التركيبة المجتمعية والمزاج الجمعي العام. أولها: تكرار مظاهر اليأس في مجتمعنا، كانهيار منظومة الانتماء وفقدان الأمل واللامبالاة بمصير الوطن، كرد فعل لعدم الاكتراث بمستقبلهم ورغباتهم. فأصبحنا أمام مجتمع منهار بدون منظومة قيم، ولا دوافع نحو العطاء المدني، أو السياسي. وهو مؤشرٌ خطير يشرح عمق التفكك البنيوي للجيل الجديد حيال القضايا التي تخص شعبه، وقوميته، فهو ما عاد مهتماً لا بسير القادة، ولا بتاريخ الأحزاب.

وثانيها: وإن كان آلاف الشباب حملوا السلاح، ما بين الرغبة الذاتية، أو التجنيد الإلزامي، فإن كمية الدماء التي سالت في كل سوريا عامة، وشرق الفرات خاصة؛ بما لها من خصوصية تنوع قومي وإثني، وجغرافية هشة تشهد توتراتٍ وعدم استقرار مضاعف، تدفع بالشباب القاطنين في شرق الفرات، النازحين منهم أو أصحاب الدار، للاستفسار عن مآلات أيامهم المقبلة، خاصة أن التضحية والعمل والدماء، كانت لأبناء الفقراء والملتزمين بقضايا التحرر والإنسانية فحسب، بعيداً عن المسؤولين الذين تبوؤوا ناصية إبعاد أبنائهم عن الأخطار المُحدقة بهم، رافعين شعارات “الشباب أمل المستقبل” ومُبقينها دون أيّ تطبيقٍ أو تفعيل، كل ذلك خلق طبقتين متنافرتين، المضحين والمستفيدين، تخشى كُلٌ منهما الأخرى. والثالثة: إنّ ردات الفعل الشبابية تجاه لا مبالاة الطبقات المتحكمة بمصير الناس، سواء في هياكل الحكم المحلية، أو ضمن الأحزاب السياسية، أو الأجساد والتجمعات السياسية، تكبر لحظة بلحظة حول شعور الندم لعدم الهجرة من وطن يتحكم به طبقات تتمتع بكتلة من مرض الإلغاء وإنكار الآخر. أما ردة الفعل الرابعة وهي الأخطر، كمؤشر عدم الاكتراث بالأحزاب والسياسة، فإن هذا الجيل وإن كان يعشق قوميته، لكنه لم يعد يولي الأولوية في سلم اهتماماته، للقضايا القومية، ولا يهمه كم عدد الأحزاب الكُردية أو غيرها، وبل تنحدر إلى أدنى اهتماماته، ولا يجد نفسه مضطراً لمعرفة أسماء الأحزاب وقياداتها ولا برامجها السياسية، ولا يعرف أشكال ووجوه غالبية القيادات الحزبية والسياسية، هذا الجيل يهتم فقط بكيفية الكسب المادي والاستقرار الأمني، خاصة أن أجيالاً ضاع مستقبلها ما بين الحرب والهجرة وعدم الاكتراث بهم. والخامسة: التململ والضغط الذي يعيشه الشباب اليوم بدوافعها الأخلاقية والاجتماعية تتجاوز الأساليب والأكاذيب المتبعة لاحتوائهم. خاصة أن عدم تأمين مستقبلهم العلمي في ظل السيطرة الميدانية والسياسية والاقتصادية للأطر الكُردية، أو العلاقات مع دول العالم الخارجي وكلٌ طرفٌ وفق ما يتحكم به، تُعتبر نقطة انعطافة بين الطرفين، ومردودها سلبيٌّ وهدامٌ. وهو مؤشر خطير على تضخم الاستهتار بالطبقة الشابة، وعدم سعي أي طرف كُردي أو غيره لتأمين فرص تعليم لهم، ضمن سياقات علاقاتهم الخارجية، فضح طبيعة المرويات التي لجأت إليها تلك الأطراف. فأصبح مقياس التقييم الرئيس لدى الجيل الجديد مرتبطاً عضوياً بالكّف عن خدمة الشباب وتوقف السياسة عن تحقيق مطالبهم. فتضخم حجم عدم الارتباط، واللامبالاة المتسارعة بالأهداف السياسية للأحزاب من قبل الشباب، جاء كردِّ فعلٍ لحجم الاستهتار المتسارع بحيواتهم وتطلعاتهم والاكتفاء بالتنظير الخطابي لمطالبهم.

وفق ذلك، ثمة خمسة أسئلة يبحث الشباب عن أجوبة لها، أولها: يقول الشباب علناً، بعد أن كانت ألسنتهم تلوكها سراً: لماذا نجد الوجوه ذاتها دوماً تطالب بالتغيير وهي لا تتغير، ولماذا تطالب الأحزاب بتغيير الأنظمة السياسية والتركيبة الهرمية لهياكل الحكم المحلية والمركزية، لكنها تجعل من التغيير عصياً وبمثابة الجريمة لقواعدها وعموم شريحة الشباب، خالقة حول نفسها طوقاً يَصعبُ اختراقه، فتتحول أهدافهم في التغيير إلى شعارات باهتة فحسب.

وثانيها: تطالب الأطراف الكُردية بالتعددية السياسية وحل القضية الكُردية ديمقراطياً، وهي التي تفتقد كِليهما، إذ لا انتقال سلس للسلطة بينهم، أياً كانت نوعها، ولا مجال للديمقراطية خارج أطرها الشكلية. حيث تسعى الأطراف والأجسام السياسية في شرق الفرات صوب ناصية القرار السياسي وامتلاك زمام المبادرة، وتطالب بقية التشكيلات الحزبية في أطر المعارضة بالتضامن معهم، لكنهم لم يلتفتوا إلى سؤال جوهري حول عزوف الشباب عن الالتزام بدعوات الأحزاب والأجسام السياسية؟ ولسان حال الشباب: استمرار الأطراف السياسية الكُردية/العربية بنمطية التعاطي فيما بينها، وعجزها عن تغيير أو إيجاد تسويات سياسية داخلية أو خارجية، وتالياً آلية تعاملها مع تطلعات الشباب، قد يخلق تمرداً طلابياً شبابياً حاداً، فهؤلاء يرون من المفاهيم فقط ما يحقق مطالبهم.

ثالث الأسئلة: يطرح جيل اليوم إنه نهض على أنقاض ما قدمه من سبقوه –شباب الحِراك- درساً بليغاً في تحدي الخوف وكسر قوالب التابوهات والأفكار المُعلبة. وكيف علموا الأحزاب العربية والكُردية درساً بليغاً حول حدود مبدأ التلاعب بالعقول، واستعدادهم للتضحية بأجسادهم في مواجهة الرصاص لكسر هالة الخوف، مع ذلك فإنه بعيد عن القرار السياسي، ومُغيب عن المشاركة في الوضع المادي والمعيشي، ومُهمش القدرات والإمكانيات، وهو ما يدفع للاستفسار عن صلاحية هذا الوضع بعد كل ما قُدم طيلة السنوات السابقة.

والسؤال الرابع: حيث قطع الأمل بأيّ تغيير، فلو سئل الشباب والطلبة كيف سيكون مصير العالم بعد 20 عاماً، أو كيف تتوقع مستقبلك بعد 7/10 أعوام، فستوجد تشاركية في جوابٍ واحد “وهل نضمن العيش حتى تلك الأعوام”.

خامس الأسئلة: إلى متى تبقى الطبقات الفاسدة متحكمة بناصية القرار الاقتصادي، حيث شكل الحدث السوري مورداً مالياً، وأمنت مداخيل اقتصادية غير شرعية، في مقابل شمول غالبية الشرائح الشعبية تحت خط الفقر، وانهيار الطبقة الوسطى دون أيّ اكتراث من الطبقات “الأوليغارشية” المتحكمة.

الحقيقة الثابتة، أن شباب هذه الأيام يكرهون التلفزة والإعلانات الحزبية والحكومية ويبتعدون عن الوسائل النفسية المتبعة لاحتوائهم، فتحول إلى متطلب لتنفيذ رغبته بالتنوع والكسب، وفق نظرية حصته من المكسب الاجتماعي والسياسي، كمؤشر على فشل جميع التنظيمات السياسية الكُردية والعربية في شرق الفرات من لجم التمرد المتراكم للشباب، وعدم تمكنهم من احتوائهم، أو خلق أنساق للتواصل والعمل المشترك. عوضاً عن ذلك قابله أن المهووسين في التلاعب بعقول الشباب وخداعهم، يبتعدون عن فهم أن “اللحظة التاريخية تغيرت”. وأن التغيير المطلوب يبدأ من الداخل أولاً، وأن المنطقة قد تشهدُ تمرداً شبابياً طلابياً لبؤس حالهم وفقرهم، وأن المطلوب لا يحتاج سوى شرارة صغيرة، لتحول المنطقة إلى جحيمٍ آخر.

إن المتسببين “بطفش الشباب” يعيشون ميولاً عدوانية مقموعة وينظرون إلى التاريخ على أنه سيرورة زمنية متوقفة ولزومية إبقاء الأمور على حالها والوقوف في وجه التقدم، هؤلاء جزء من العنف والحرب والكوارث، بل وأصبحوا خارج التاريخ، وينتمون إلى نظامٍ سياسي قائم على ازدواجية المعايير، القول بمعارضتهم للشمولية، وتطبيقها على من حولهم بعنف كبير، وعمق ما يسعون إليه هو محاولة خلق القطيعة بين الشباب والتفكير، وهذه الأخيرة تحديداً تشكل هوساً وكتلة ضاغطة على المستقبل السياسي للعاهات الحزبية.

في وسط مخيف من صراع الهويّات القومية والدينية، رُبما يصعد صراعٌ جديدٌ قوامه رغبات الشباب والانشقاق عن الرتم المجتمعي أمام هول إصرار النشء لعدم الاكتراث إلا بمطالبه. هذا المشهد المؤسف للشباب التائه، وضياع وقتهم في المقاهي والفيس بوك، نتيجة عدم وجود مؤسسات تحتويهم وتتبنى مطالبهم وتحقق ذواتهم، ينبئ بمستقبل معقد وخطير، يبدو أن الأطراف المختلفة بشرق الفرات غير منتبه، وبل غير مكترثة بها. هذه التحديات المصيرية الجدية تشكل خطراً على المستقبل وهي بحاجة إلى توافر نُخب اجتماعية ودينية وسياسية لتصدي لها بشكل عاجل عبر إطلاق عمليات مراجعة شاملة وإصلاحات جذرية في المنظومة الحزبية والاقتصادية الموجودة، وإصلاحات في قطاعات التعليم والإعلام وتطوير القوانين ومكافحة الفساد وكسر الحواجز والسدود أمام وجود الشباب في المفاصل المهمة، ومشاريع خاصة لتمكين النساء، أملاً بتوقف هذا التدهور الخطير والسريع جداً الذي يهدد مستقبل منطقة عانت من الاستبداد والعنف والإقصاء والفقر. علماً أن خطط الإصلاح الديمقراطي تبدأ من الأحزاب نفسها، وقد تأخذ وقتاً لكن خطوات عملية رُبما تُعيد شيئا من الأمل للشباب، أو أنهم سيصبحون هدفاً لتنظيمات تدفع كثيراً، لتحصد أرواحاً أكثر.

قد يعجبك ايضا