لاجئون سوريون يجدون ملاذهم في معرض بيروتي

جسر: ثقافة:

معاناة شعب

ميموزا العراوي٭

استكملت الفنانة اللبنانية متعددة الوسائط جنان مكي باشو سيرة الإنسان المعاصر في معرض بيروتي تضمن المئات من المجسمات لا تتجاوز بضعة سنتيمترات مصنوعة من الحديد والبرونز واللوحات الخشبية المنحوتة تحت عنوان “مواسم لا نهائية من الهجرة”.

أقيم في “غاليري أجيال” بالعاصمة اللبنانية بيروت أخيرا معرض للفنانة اللبنانية متعددة الوسائط جنان مكي باشو حمل عنوان “مواسم لا نهائية من الهجرة”، وفيه تجسد الفنانة قوافل اللاجئين السوريين الخارجين من بلادهم وهم محملون بحقائبهم وترافقهم عائلاتهم.

وفي معرضها السابق عرضت جنان مكي باشو مجسمات معدنية للمسلحين المرتزقة الذين اجتاحوا منطقة الشرق الأوسط من دبابات، ورايات سوداء، وسجون، وغرق المراكب، وأقفاص حديدية ودرجات نارية.. إلخ. اختلطت فيها ملامح الجلاد بالضحية ربما وفقا لنظرية المفكر الفرنسي المعاصر ميشال أونفري المتحدثة عن العدوانية المتأصلة والقادرة على جعل الضحية جلادا حين تسنح له الفرصة.

أما في معرضها الأخير، فقد شملت نظرة الفنانة الكوكب كله مع استمرارها على نهج تطويع المواد “العنيفة” مستخدمة الخردة والحديد، وبقايا السيارات لتصقلها وتقولبها في أجساد وهيئات مشكلة ومصهورة وملحومة بعنف النار والمطرقة لتعبّر عن ذاتها (أي عن ذات المعروضات) قبل أن تعبّر عن علاقتها بالعالم المحيط.

قد يجد البعض في هذا المعرض للوهلة الأولى استعادة لمشاهد استفاض الفن، وخاصة الشرق أوسطي، في التطرق إليها، غير أن هذا الانطباع لا يلبث أن يزول، إذ نكتشف أن ما تسرده جنان مكي يتعلق بأهل الأرض جميعهم.

الهجرة من الذات

العديد من الفنانين برعوا في التعبير عن الهجرات، غير أن في أعمال الفنانة اللبنانية جنان مكي باشو روحا مختلفة. بداية، أعمالها ليست محكومة بشتات لحظة الكارثة بل بفكرة ما بعد الكارثة، أي الذي جاء ما بعد “تاريخ” حدوثها هي وغيرها من الممارسات والحوادث العنيفة.

غاب الألم. إنه زمن الهجرة من الذات، من الأيديولوجيات البالغة أوجها في القرن العشرين إلى ظلامية حاضر محتوم بنهاية مطلقة وليس فقط هجرة الشعوب أو القتل هنا أو هناك على سطح الأرض.

نستشعر في أعمالها أفكارا لفوكوياما التي تناولها في كتابه الشهير “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”. وباختصار شديد: ذكر المفكر أن العالم هو في نهاية تطوره كمعادلة سوسيولوجية/ ثقافية، ليس كمرحلة من مراحل التاريخ، بل لتتعداها إلى “ما بعد التاريخ” حيث ستطغى “الديمقراطية الليبرالية” كصيغة إنسانية/ سياسية/ اقتصادية أخيرة.

الفنانة تطرح في معرضها تصوّرا حقيقيا لما تعني كلمات واهية كالديمقراطية، والليبرالية وحوار الحضارات.. إلخ.

تاريخيا، لمعت صورة “الديمقراطية” حقائق لم تكن إلاّ مجرد موجات عابرة من غياب الحروب والنزوح في فترة ما بعد الحرب الباردة، لتحلّ مرحلة جديدة كنتيجة حتمية لها: غياب الإنسانية والقتل البارد والمشروع في صلب القوانين المناهضة له.
أما اليوم فقد نكون وصلنا إلى مرحلة تتفادى فيها الدول الاقتتال بأسلحة الدمار الشامل، لأن الصراع انتقل إلى أقبية ظلامية يتم  فيها إعدام “الآخر” بصمت ودون الحاجة إلى أسلحة وجنود على الساحة. إنه الصهير من دون نار ودخان.

يُرجّح أن هذا ما وصلت إليه اليوم الفنانة اللبنانية في معرضها الحالي الذي يحمل عنوان “مواسم لا نهائية من الهجرة”، وهو في حقيقته معرض يستحقّ أن يُطلق عليه عنوان “الإنسان الأخير”.

بشر آلات

حقائبنا بلوتنا

تقدم لنا الفنانة اللبنانية جنان مكي باشو الشخوص كـ”دمى” حديدية ممسوحة الملامح الفردية التي أصبح من الصعب التعاطف مع أقدارها الباردة لشّدة ما تناولها الإعلام وكرّسها كأسلوب حياة “جديد”، ينتمي إليها كل كائن بشري في العالم بشكل عام وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص.

وما جسدته الفنانة في معرضها السابق وقبله، ذكرنا بفيلم “عالم الماء” الذي تسوده الفوضى والعزلة والعنف في البحث عن نقطة ماء “حلوة” وعن أرض تكسوها الغابات فُقدت منذ سنوات لا تحصى حتى باتت أسطورة متخايلة للكثير من أبطال الفيلم، أصبح ما تجسّده اليوم في معرضها الجديد يحيلنا مباشرة إلى إحدى الأغاني الرائعة لبينك فلويد وهي “أهلا بالآلة”. والتي تقول بعض كلماتها “أهلا يا ولدي/ الآلة ترحب بك/ أين كنت؟/ لا بأس، نحن نعلم أين كنت/ اشتريت قيثارة لتعاقب والدتك/ ولم تكن تحب الذهاب إلى المدرسة/ بماذا حلمت؟/ لا بأس نحن نعرف بماذا جعلناك تحلم/ حلمت بأن تكون نجما شهيرا/ لذا أهلا بك في الآلة”.

ما تقوله كلمات الأغنية بشكل مبطن، هو “أنت تعتقد أن لديك أحلاما وأفكارا وممارسات ثائرة، ولكنك في الحقيقة أنت تنصاع إلى ما خططناه لك. أنت الآن في كنف ‘الآلة’ فأهلا بك عبدا لها بعد أن كنت لا تدري ذلك”.

هل تكلمت أغنية بينك فلويد عن الحكومات المسيطرة أو المخابراتية المراقبة لتفاصيل حياة الفرد؟ أو قصدت مخلوقات فضائية أو آلات ذكية؟ وما يهمنا أن نعرف، فالنتيجة واحدة. ننقاد كما خرفان الفنانة جنان مكي باشو وراء راع واحد له ملامح كائن فضائي أو جمجمة إنسانية أو رجل دين وطيد.

عندما تسائل المعجبين ببينك فلويد عن صورة الآلة المطبوعة على الألبوم أجاب الكثيرون: إنها الآلات. المخلوقات الفضائية إنه المستقبل.

المجسمات الحديدية/ البشرية التي نحتتها الفنانة تمتلك تفاصيل مهمة جدا: العديد من رؤوسها مستطيلة أو مربعة وتذكّر كثيرا بالآلات. على رغم رقتها و”رشاقتها” تذكّرنا بما يناقض منحوتات جياكوماتي الرفيعة الدقيقة التي تغص بإنسانية لا متناهية.

معاناة اللاجئين

وضعت الفنانة اللبنانية شخوصها و”خرفانها” في شكل قوافل هجرة لا يبدو عليها أنها أضاعت طريقها. تسير بثبات نحو المجهول كحيز جغرافي. تسير لأن قدرها بات أن تسير. لم يعد السير هكذا مأساة إنه أسلوب الحياة الجديدة التي فرضها نظام جديد وواحد وشديد الإدعاء.

حالة التهجير لم تعد تشبه نهرا تختلجه العواطف الإنسانية. أصبحت صدعا وجوديا يشكّل الملامح الجديدة لكوكب الأرض ولبشرها المتكوّنين من حمم بركانية تتالت فتجمّدت في نهاية مطافها.

الأعمال الخشبية أقل قسوة، لأنها أشبه بنُسخات مُخفّفة عمّا قدمته جنان مكي باشو من أعمال برونزية ثلاثية الأبعاد. في تلك الأعمال يدخل اللون كعنصر ملوّن بينما يكون صدأ راشحا من الكائنات المعدنية السائرة.

بشر، لا بل آلات في قافلة واحدة تحت إدارة عالمية واحدة يقودها رجل “مُسيّر/ آلي” يحمل في يده سوطا له الكلمة الأخيرة والفعل الأخير.

٭ناقدة لبنانية

العرب 6 أيلول/سبتمبر 2019

قد يعجبك ايضا