ماذا يفعل حزب الله في الشمال السوري؟

 

جسر : رأي

التواجد الكثيف لمقاتلي حزب الله في الشمال السوري، الذي ظهر على نحو دموي مع سقوط أكثر من 14 من عناصره بضربة واحدة، يكشف عمق حضور هذا الحزب في سوريا وطموحه البعيد المدى في إعادة صوغ البلد، ديموغرافياً وسياسياً، وبالمعنى المذهبي والأيديولوجي. فسيرة الحزب منذ العام 2012 في الحرب السورية، لا تقف عند “دعم” النظام أو مؤازرته في سحق ثورة الشعب السوري. وبالتأكيد، ليست موقوفة على “محاربة داعش” أو ما يسميه “التكفيريين”. هو هنا من أجل تحقيق رؤية أوسع بكثير. رؤية تشمل تغييراً عميقاً للهوية السورية ولنسيج المجتمع السوري أولاً، ثم تكريس واقع سياسي يضمن باستمرار وجود نظام حاكم يمكن وسمه بالشيعية – العلوية، ثانياً، على نحو متصل عضوياً بالنظام الإيراني.

وهذا الطموح هو امتداد لما يحدث وما يتكرس في العراق ولبنان، بما يرسم تلك الخريطة “الأسطورية” التي تسمى “الهلال الشيعي”.

لقد كان قائد فيلق القدس الإيراني القتيل، قاسم سليماني، مكلفاً بهذا المشروع الامبراطوري، وهو كان يتصرف متشبهاً على نحو تهويمي بقادة الفتح الإسلامي، حالماً بملحمة تاريخية تمسح الحدود بين إيران وشاطئ المتوسط، ضاماً العراق وسوريا ولبنان إلى ولاية الإمام الفقيه.

لا شيء يفسر هذا الإصرار الوحشي على التطهير السكاني، إبادة أو تهجيراً، وتدميراً منهجياً للعمران، وجرفاً واسع النطاق للأراضي الزراعية بما يعدم أسباب البقاء والحياة.. سوى تلك الغاية في التخلص من أكبر عدد ممكن من السوريين غير الموالين للنظام، وبالتحديد “المسلمين السنّة”، أي الأغلبية السكانية. ويترسخ أكثر الدليل على هذه الغاية، هو امتناع حزب الله عن تسهيل أي عودة للاجئين السوريين في لبنان إلى ديارهم، رغم أن حلفاءه في السلطة بلبنان لا يتوقفون عن دعايتهم الديماغوجية والعنصرية الداعية إلى التخلص من اللاجئين.

يحتل حزب الله معظم المناطق السورية الممتدة من تخوم الجولان إلى أرياف درعا ودمشق والقلمون الغربي والقصير وأرياف حمص، أي ذاك الشريط العريض بمحاذاة الحدود اللبنانية. والأغلبية الساحقة من اللاجئين في لبنان هم من تلك المناطق المذكورة، حيث توقفت الحرب تماماً واستتبت الأمور للنظام. مع ذلك، يمنع الحزب أولئك اللاجئين من العودة إلى ديارهم. وهو استولى على معظم المرافق ومصادر المياه والمزارع والأراضي الزراعية، وصادر البيوت والمساجد والمؤسسات الخدماتية، بالشراكة مع عصابات النظام وجماعاته الموالية له. وبمعنى آخر، تتم عملية “تطهير” و”استيطان” بما يبدّل هوية هذه المناطق السورية، من ناحية، ويدمجها توسعاً مع المناطق الشيعية في البقاع اللبناني، مزيلاً الحدود أمام هذه الهندسة السكانية – السياسية، التي يرفدها مجتمع عسكري يتوطد على سفوح القلمون الغربي السوري و”السلسلة الشرقية” اللبنانية، حيث شبكة المغاور والأنفاق والمستودعات الضخمة في بواطن الجبال، وحيث طرق ومعابر التهريب المتصلة بشبكة الإمداد الاستراتيجي من إيران فبغداد، إلى البوكمال والبادية، إلى حلب ودمشق، إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، وصولاً إلى جنوب لبنان.

يحارب حزب الله في سوريا لأسباب لبنانية أيضاً. فبقاء “دولة حزب الله” مناط بدوام مجتمع الحرب و”اسبارطيته”، دوام التعبئة والاستنفار والقتال، واستمرار “قوافل الشهداء” التي تضمن دماؤها قوة العصبية وتماسك الجماعة واعتصامها في الولاء للحزب. فـ”الشهادة” هي المؤسسة التي تقوم عليها شرعية سلطة الحزب والتحام الجماعة به، في علاقة معمّدة بالدم.

في هذه الإسبارطية الحربية، يأمن الحزب التحاق الأجيال المتتالية به، ويأمن أكثر ديمومة “اقتصاد” شبه عسكري لمجتمعه. فأي مرحلة سلم بلا دم ولا قتال، قد تكون فعّالة في تسرب أفراد مجتمعه نحو حياة “طبيعية” تفرض اهتمامات ومصالح وعلاقات تبعدهم عن عقيدة القتال والاحتراب. وهذا ما عاناه الحزب في بعض المراحل، فعمد إلى تكثيف تعبئته، وتورط في إرسال “كوادر” عسكرية إلى بلدان كثيرة، ووسع برامج التدريب داخل لبنان وفي إيران، قبل أن يتدخل في الحرب السورية، التي وجدها فرصة لتكوين جيل جديد من المقاتلين ذوي الخبرة العسكرية، بعدما بدأ الجيل الذي خاض حرب 2006 يتقدم في السن.

الضربة التي تلقاها في إدلب، ستتحول إلى مواكب تشييع في قرى البقاع والجنوب اللبناني. هناك سينظم الحزب استعراضاته “المهيبة”، حيث كل جنازة هي بمثابة نداء للسكان لتجديد الشعور بهذا الرباط الدموي الذي يلحم الجماعة المذهبية، وحيث مأساة موت الشباب والأبناء تتحول نسغاً يغذي الانتماء الأيديولوجي، ويعمق تلك الرؤية الصراعية للحياة، القائمة على “نحن” بمواجهة “العدو”، المتعدد الأسماء: الصهيوني، الأميركي، الداعشي، التكفيري.. والتركي الآن.

هي الحاجة إلى العدو لتوكيد الهوية، لاستمرار دولة الحرب وتوسعها، و”ازدهار” مجتمعها ونموها الاستيطاني القائم على “الفتح” والتطهير والإخضاع.

يحدث كل هذا ليس فقط على المستوى الحربي، قتالاً أو احتلالاً. فهناك مستوى بالغ الأهمية يترجم السيطرة العسكرية إلى “وجود” دائم، قائم على تغيير هوية المكان والعمران، ابتداء من تحويل الملكية العقارية إما استيلاء أو شراء، أو تشييداً لمساجد وحسينيات ومدارس ومستوصفات و”مراكز ثقافية” بالترافق مع هندسة سكانية جديدة، وصولاً في الكثير من المناطق إلى ابتداع مرقد أو مزار أو “زاوية” وإضفاء بعد مذهبي مقدس عليها، لتتحول إلى محجة ونقطة ثقل ديني – سياسي، تتمحور حولها وعليها دورة اقتصادية جديدة، لا بد أن تفضي إلى مجتمع مبتكر وجديد ومهيمن، بهوية أيديولوجية موالية، لا تحتاج إلى زمن طويل حتى تتحول إلى “حقيقة تاريخية” متجذرة في المكان.

وعلى هذا كله، يمكننا فهم كل هذه الوحشية والشراسة والإصرار الدموي كـ”ميزة” مروعة للصراع في سوريا.

(موقع تلفزيون سوريا)

قد يعجبك ايضا