مَنزِلةٌ بين المَنزلتَين

جسر: قضايا:

قضَيتُ خلال السَّنوات الماضية قرابة 13 سنة في الحياة المكرّسة والرَّهبانيّة، أعيش الحياة الدَّيرِيّة في أغلب الوقت، وألتزمُ غالبًا الصَّلوات والأصوامَ والعادات التَّقْوِيّة المطلوبة، حتى قرَّرتُ يومًا -بعد تفكّرٍ وتأمّل فيما يكفي من الوقت ولأسباب يطول شرحها-، أن أترك هذه “الدَّعوة”، وأعود إلى الحياة العلمانيّة (المدنيّة) العاديّة.

منذ ذلك الوقت، وجزءٌ كبيرٌ من المجتمع المحيط بي -سواءٌ أَمِنَ الحلقة القريبة منِّي كان أمْ مِن التي هي أبْعَد-، يُصنِّفني ويضعُني في هذه الخانة أو تلك. فبعض رجال الدِّين والرُّهبان والمؤمنين المسيحيّين/ات، الَّذين عرفوني كراهبٍ أو حسب ما اعتادوا أن ينادوني “أبُونا”، ظنّوا على الفور أنَّ خروجي من الدَّير، وخَلْعي ثوب الرَّهبانيّة الأسود، يعني حُكمًا أنَّني خرجْتُ عن الدِّين، وأصبحتُ ملحدًا أو أكاد، وكأن لا سبَبَ لخطوة مماثلة إلَّا فقدانُ العقيدة وعدم الإيمان بالله، أو كأن لا تعريفَ وعَيشًا للإيمان إلَّا ما اعتادوا هُم/هُنّ عليه.

أمَّا بعض معارفي وأصدقائي وزملائي -وكثيرون منهم/هنَّ لاأَدْرِيُّون أو مُلْحدون، أو يحتلُّ الدِّين مساحةً محدودة في حياتهم-، وعلى رغم خروجي من الدَّير وخلْعي ثوب الرَّهبانيّة الأسود؛ فقد بقِيتُ بالنِّسبة إليهم المسيحيَّ اليمينيَّ، وصوتَ الكنيسة الحاضر بينهم، بما قد يعني ذلك لبعضهم/هنّ أنّه تَنافٍ مع العقل، ومُحافَظةٌ وتزَمُّت.

في الحالتين، قد أكُون سبب خيبة أمل، أو ربَّما شعور بالخسارة، لأنِّي كفرد قد تركتُ –برأيهم/هنّ- هذا المعسكر إلى المعسكر المقابل، أو بالعكس. وهذا الموقف يجعلني أشعر بالظُّلم وعدم التَّفهّم؛ إذ يُنظَر إلى أمرٍ يخصُّني بطريقةٍ تبسيطيّةٍ (بالمعنى السَّلبيّ للتَّبسيط)، لا تَدخل في أعماق الأسباب وحقائقها. وباستثناء مشكلة التَّصنيف أو التَّنميط، الَّتي تبدو أحيانًا أمرًا لا مفرَّ منه، ونمارسه على نحو يوميّ دونما قصدٍ أو انتباه؛ ويبدو أن هذا الموقف تجاهي مبني على الشُّعور بامتلاك الحقيقة كلّ الحقيقة، وبأنَّ “مَن ليس معنا فهو علينا”. فتأخذ التَّموضُعات والمواقف واحدًا من لَونَين: أبيض أو أسود، ولا محلّ للرَّماديِّ أو “بَيْنَ بيْن”.

على هذا المنوال، وخلال “معركة الرُّموز الدِّينيّة في وجه الحرّيّات الفرديّة”، الَّتي شهدها لبنان خلال الأسابيع الماضية، بسبب حفلة موسيقيّة لفِرقة تُعتبر بعض أعمالها وآراء أفرادها محلَّ جدل، والَّتي أسفرَت عن التضييق على الفرقة وإلغاء حفلتها بذريعة الأسباب الأمنيّة؛ كان الانقسام الأبرز هو أيضًا على معسكرَين: أحدُهما يرى أن الرُّموز الدِّينيّة قد أُهينت، وأنَّ من لا يأخذون موقفًا ضدَّ الفرقة وأعمالها مشكوكٌ في إيمانهم/هنّ وفي احترامهم/هنّ للأديان، بل وربَّما هم/هنّ على صلة بالصِّهيونيّة والماسونيّة. والمعسكر الآخر يعتقد أن من لا يوافقون على بعض الطُّروحات، الَّتي جرى تداولها ونقاشها بشأن الدِّين ورموزه، ولا يأخذون موقفًا واضحًا إلى جانب الفِرقة وحرّيّة التعبير المطلَقة، هم/هنّ مِن داعمِي/ات سُلطة المتديِّنين على الحرّيّات العامّة والفرديّة… إلخ.

لم تتوقَّف القضيّة هنا، بل استجلبت بعدها معارك أصغر، بسبب تشكيلٍ فنِّيٍّ معدِنيٍّ لرمزٍ دينيٍّ هنا، أو صورةٍ إعلانيّةٍ هناك، حتى كادت الأمور تأخذ -فعلًا لا قولًا- المَنْحَى السَّلبيَّ القمعيّ المتداوَل، لمَحاكم التَّفتيش الغابرة.

من جهة، هي خبرة شخصيّة في تصنيفي كإنسان، على أساس ثُنائيّة مؤمن-ملحد، مع ما تَحمله هذا الصِّفات لدى مُتبنِّيها من تقيِيم سلبيٍّ أو إيجابيٍّ. وأيضًا هي تصنيفٌ جاء بِناءً على خيارات شخصيَّة، يجب ألّا تُفضي إلى أحكامٍ مُبْرَمة في هذا الشأن، بغضِّ النَّظر عن ضرورتها.

ومن جهة أخرى، هي خبرةُ تصنيفٍ جماعيّ، على قاعدة أنَّ مَن يدافع عن حرّيّة التَّعبير مُعادٍ للدِّين، وأنَّ مَن يدعو إلى احترام الرُّموز الدِّينيّة، غير مُكترثٍ لحالة تراجُع الحرّيّات. وبين الخبْرتَين، يبدو المشهد ناقصًا، وكأن لا مساحة لرأي ثالث بين الرَّأيَين، أو المَوقفَين المتحاربَين.

عندما نتناول الآراء والمواقف، قد يكون جزءٌ من المعسكر المُدافع عن الحرّيّات، قد وقَع في فخِّ إلغاء حرّيّة رأي مَن كانوا ضدَّ إهانة الرُّموز الدِّينية -حسب ما يفهمونها-، ولكنَّه في الوقت نفسه، ضدَّ قمع الحرّيّات وإلغاء العروض الموسيقيّة وغيرها. وهُو في وقوعه في هذا الفخِّ، قد خسر مناصرين/ات له في قضيَّته.

ما قد يكُون مطلوبًا في اصطفاف مماثل، هو الدَّعوة، ثمَّ العمل للحفاظ على منزلة ثالثة: منزلة بين المنزلتين. فالحقيقة لا تكُون دومًا بيضاء أو سوداء، وقد تكُون خليطًا من هذا وذاك. والتَّنوّع الذي يُنادَى دومًا بالحفاظ عليه (التَّنوّع الدِّينيّ والطَّائفيّ والإثنيّ والثَّقافيّ)، يَدخل في عداده أيضًا بطبيعة الحال التَّنوّع في الآراء والمواقف. وهي آراء لا يمكن حصرها فقط في قاعدة “معَنا أو علينا”، دون أيِّ مَوقعٍ وسطٍ بينهما. لذا، قد يكون من الحكمة ترك مساحةً وُسْطى بين رأينا، ورأي خصومنا.

موقع تعددية ١٩ آب/ اغسطس ٢٠١٩

قد يعجبك ايضا