متلازمة فقدان القرى السورية

 

 

-1-

منذ أخر زيارة لي لجامعة حلب في تموز عام 2012، لازمني اضطراب نفسي، إلا وهو التخوف من فقدان الأماكن، كنت بدايةً الأمر أظن انقطاعي عن الجامعة مؤقت، وما هي إلا أيام و يتم تحرير كامل أحياء حلب من الأجهزة الأمنية التي انتهكت الحرم الجامعي بالسلاح الحي وقامت باعتقال الطلاب الذين شاركوا بالحراك الجامعي ضد الأسد من داخل قاعات الامتحان.

كنت أقول لمن حولي: من أسبوع لم أذهب إلى الجامعة … منذ شهر لم أزر الجامعة .. منذ سنة لم أزر الجامعة.

 

استملك اليأس ذاكرتي وتناسيت عدد الأيام والشهور والسنين، عن أخر زيارة لي للمكان الذي كنت أحلم بالدراسة به، نظراً لكمية الاحترام الذي يفرضه حضورك كطالب جامعي بين أبناء حيك الشعبي.

تأقلمت والكثيرين من طلاب الجامعة الذين تركوا مقاعد الدراسة التزاماً بالعصيان المدني، أو خوفاً من الملاحقة الأمنية، إذ هجرنا الجامعة طواعيةَ، الجامعة التي تحولت لمرتع للشبيحة، لم يخلوا هذا الهجران من وخزات الحنين تأتي فجأة أو تغيب، كل ذلك متعلق بكمية القصف الذي كنا نعيشه تحت براميل قوات الأسد في أحياء شرق حلب وما أن تخلوا السماء من الطيران المروحي حتى يطفوا الحنين للجامعة والأيام الجامعية.

 

انشغل كل منا بحياة جديدة لم يخطط لها من قبل، كأن يكون الطالب إما مقاتل أو قناص أو عرّاب نظريات تلهي الطيران المروحي عن سماء المدينة مستنتجاً ذلك من نظريات مكتوبة بالعربي أو بالانجليزي على مواقع الانترنت، كأن ننصب ليزرات في محيط المدينة ونوجهها إلى قمرات قيادة الحوامات، لنشغله لاعاقة عمليات القصف والتصويب، ولكن … أي نظرية فاشلة كانت!  فهدف الطيران هو عشوائي بحجة قصف المقرات العسكرية فقط.

 

أما أنا فقد كان نصيبي مدرس في مدرسة في حي طريق الباب وحيي الكلاسة وبستان القصر، أدرس فيها مادة الرسم والرياضيات لطلاب الصف الرابع نظراً لافتقار أحياء شرق حلب للمدرسين الذين هددهم النظام السوري باعتقالهم في حال دَرسوا في مدارس ” الإرهابيين”.

عملت في توزيع الإغاثة في عدة أحياء مع إحدى الجمعيات الخيرية، ومن ثم انتقلت للتخصص في مجال الإعلام والتصوير العسكري والتنقل بين المحافظات الشمالية السورية التي كانت تتحرر من سيطرة الأسد تباعاً.

 

تنقلت كمصور حربي من معبر اليعربية الحدودي بين سورية والعراق في محافظة الحسكة، إلى مدينة حلب ومحافظة الرقة والقطع العسكرية المتناثرة بين البلدات والمدن، كل معركة  كانت مع فصيل عسكري مختلف عن الأخر.

 

التنقل بين مدن وقرى سورية جديدة، لم أزرها من قبل بحكم صغر سني، والأمل الذي يملكنا بأن أيام أو شهور تفصلنا عن سقوط النظام، نعود بعدها للتنقل في كل سورية، خواطر كانت تحول دون ظهور علامات اضطراب الفقدان الذي أعيشه الأن.

 

مع فرض تنظيم داعش سيطرته على معظم الشمال السوري الذي كان قد تم تحريره من النظام السوري،انحسرت سيطرة فصائل الجيش الحر على بعض المدن والأرياف في كل من إدلب وحماة وريف اللاذقية وريف حلب وأحياء شرق حلب.

 

لم أتقبل فكرة تقييد الحركة التي فرضت علينا وعسكرة المناطق وبناء السواتر فيما بينمها، كنت أظن أنذاك، كل من هو ضد الأسد، لا خوف منه، بقيت اتنقل مع الأخذ بعين الاعتبار تسلط داعش على من يعمل في المجال الإعلامي وأخذ الحذر أو الاستهتار أحياناً، عدم تقبل ألا استطيع زيارة منطقة في سورية خارجة عن سيطرة الأسد، كنت أقول لنفسي: أمنت بالله مناطق الي يسيطر عليها بشار ما أقدر اروحلها والروحة لهنيك انتحار، كمان ما فينا نروح ع مناطق داعش والإدارة الذاتية وعفرين .. الله ما قالها”.

 

لم أنجح بنظريتي المشوهة عن أن كل من هو ضد الأسد، لا خوف منه، كنت قد وقعت بشباك تنظيم داعش لمدة ستة أشهر وسبعة عشر يوم في سجن المحكمة الإسلامية في مدينة الباب شرق حلب، وبعد الهروب من السجن، بدأت أعراض اضطراب فقدان المدن يزداد مع تسليمي بفكرة لن استطيع زيارة قريتي في ريف محافظة الرقة بعد الأن، وليس كل من ضد الأسد يجب ألا نخشاه، وعلى إثرها زاد الاضطراب ليصبح متلازمة ترافقني مع زيارة كل مكان في قرى سورية، سواء كنت قد زرته من قبل أو لم أزره، لأشرع بالتقاط الصور له يمنة ويسرة، أقول لمن معي: ربما لا نستطيع زيارة المكان بعد الأن.

 

يرد علي أحد الأصدقاء: النظام بعيد من هون .. اطمئن.

 

لتأتي إجابتي وهي مناقضة لنظريتي التي بنيت عليها تنقلاتي في السابق بين القرى والمدن: ليس كل من هو ضد الأسد يمكننا أن نطمئن له … من يدري ؟؟ … لربما لا نستطيع زيارة هذه القرية لأسباب أخرى، ليس فقط الأسد من يمنعنا من زيارة قرى وبلدات والمدن السورية.

 

رافقني الاضطراب الحاد وخاصة عندما تأتي سيرة تلك المدن التي كنت قد زرتها من قبل، كانت إحدى مسكنات الألام التي أتجرعها عندما يزداد اضطراب الفقدان، إما مشاهدة كل ما تم نشره من صور وفيديوهات على اليوتيوب أو مواقع الانترنت عن تلك القرى، حتى تلك الصور الرديئة التي التقطها مصوري صحف الإعلام ” الحكومي” كالبعث والوطن وتشرين. أو التنقل بين الأرشيف الذي جمعته طيلة فترة عملي في التصوير.

استقرت الجبهات العسكرية، لم يأخذ أي من الجهات العسكرية المتحاربة أي منطقة من الأخر، مرضت مرض في عيني ولم أجد في المشافي التي تقع تحت سيطرة فصائل الجيش الحر، أي مركز يعالج القرنية المخروطية، إذ كان يتوجب علي إجراء عملية تصليب قرنية لعيني اليسار، لم أجد، زاد خوفي عندما أخبرني الطبيب أن لربما أفقد عيني كلها إذا ما تم علاجها بأسرع وقت، مما دفعني للسفر بطريقة غير شرعية وبعد محاولات طالت شهر ونصف الشهر بغية الدخول إلى مدينة غازي عنتاب التركية لإجراء العملية وثم العودة إلى سورية، كنت قد تأقلمت مع اضطراب الفقدان، وتعايشت معه واكتفيت بمراجعة الصور أو الفيديوهات ومشاهداتها إذا ما زاد الاضطراب لدي، أثناء فترة علاج عيني في عنتاب، تقدم النظام والمليشيات الايرانية وكل من تذكر أن للحسين عليه السلام ثأر في حلب، وتحول هاجس حصار شرق حلب لأمر لابد منه ولا فكاك من ذلك ولا طريق للعودة إلى شرق حلب، كأن الاضطراب حملني من فوق جسر المشاة بالقرب من مشفى الجامعة بمدينة غازي عنتاب ورماني فوق سكة الترام، لم تسطتع تلك المقاطع المصورة في أرشيفي من تسكين الاضطراب وقررت العودة أو الهجرة إلى أخر بلد بعيد عن سورية، قرارات مضطربة لازمتني حتى حسمت أمري بالعودة إلى ريف حلب الشمالي ومدينة أعزاز التي كانت أيضاً محاصرة بإغلاق الحدود التركية من الجهة الشمالية ومن الجنوب قوات الأسد ومن الشرق قوات داعش ومن الغرب قوات قسد، كنت أبحث عن أي مكان يدل على المساحة الشاسعة كي أُخرس الاضطراب، فلا استطيع الذهاب إلى حلب بعد قطع الطريق الواصل بين كل من أعزاز وحلب وتمترس قوات قسد بتل رفعت وقوات الأسد في قرية ماير ونبل والزهراء ومسقان، إن كنت قد صورت مع الجيش الحر يوماً ما، هي تهمة ولا يجوز أن تمر من مناطق يسيطر عليها النظام السوري أو مناطق تسيطر عليها جبهة النصرة ولا حتى وحدات الحماية الكردية، أنت محاصر ومهدد بالاعتقال أو القتل أو التصفية المباشرة إذا ما وجدوا كاميرا في حقيبتك أو عرفوا أن لك رأي مغاير لأراهم، هل جربت مثل هذا الشعور: أن يُترجم شوقك لمدينة ما، إلى عمالة لدولة!

 

هل جربت شعور أن تتمنى لو كنت مقاتل متطرف لكي يكون لك حرية التنقل ببعض المناطق الأثرية في سورية وبعض القرى التي لم يزرها إلا سكانها وتتعرف عليهم؟

 

هل جربت أن تتمنى بينك وبين نفسك أن تكون مع إحدى المليشيات التي تدعمها إيران، لمعرفتك أن تستطيع التنقل بين تلك المناطق التي يسيطرونها عليها والتي تعتبر من قرى بلدك!

 

هل جربت شعور أن تتمنى لو طائفتك تناسب طائفة ما، لمعرفتك أن أهالي القرية الفلانية ينتسبون لطائفة ولا يسمحون لأحد من خارج أبناء الطائفة بالمرور من قريتهم  أوالإقامة فيها؟!

 

لما تم تحويل القرى السورية وتربة البلد لمعسكرات عسكرية ولمعابد طائفية لا يسمح لابن معسكر أخر و _ إن كنت لست من أي معسكر ولكنك لست من معسكرهم _ أو لا يسمح لأبناء ديانة أو طائفة بعينها.

 

لما يفترض أن اعتقل في حال قلت رأيي يوماً ما بجماعة عسكرية أو دينية ومنعي من التنقل بين القرى التي يسيطرون عليها ولا الجبال التي يعسكرون فوق قممها؟

 

لما لا تسمح هذه الجهات لنا بزيارة تلك القرى والتنقل فيها والتعرف على أهلها، و أننا يجب أن نكون محكومون من طرفهم، أو مستعبدون لهم، أو نسايرهم على الأقل من باب النفاق، لكي يسمحوا لنا بالتنقل.

 

صار حلمي أن  اتجول بالسيارة لساعات ، مطلقتاً مسجل السيارة بأعلى صوت،  لا أحد يوقفني وأضع مايحلو لي من أغاني وأشعار وكتب صوتية.

 

صار الحلم أن أسير على طريق دولي معبد ومزفت وعريض وتصل السرعة إلى ما أريده كما في بلدان العالم دون التخوف من حاجز أو دخول منطقة ما، قد تتعرض للاعتقال فيها.

 

تعسكرت القرى وحُفرت الخنادق وتم توسيعها كلما زاد تهديد جهة لجهة أخرى وتم رفع السواتر التي اقتصرت في البداية على براميل مهترئة، وأصبحت الآن سواتر ترابية عالية مبنية بطرق هندسية فريدة من نوعها أو غرف إسمنتية مسبقة الصنع يتم وضعها كمحارس بين القرى وحول الانهار.

 

ربطت أسماء قرى بأسماء الحواجز وكره المواطنيين تلك القرى لاقترانها بحاجز تفتيش لا يرحم أحد والميت في سجلاته مطلوب للسجن، شوهت أسماء قرى إثر وضع سجون فيها وتحول اسم القرية الجميلة والتي لها تاريخ وحضارة إلى اسم يفزع السامع.

 

اتنقل في موقع لاف ماب سورية بين الألوان التي تتوزع وتتغير على الخريطة السورية وأتمنى سراً بيني وبين نفسي لو أنني غير مطلوب لأي جهة سورية، لاستطيع التنقل، كلما كبرت خريطة جهة على حساب جهة أخرى أقول لنفسي سراً: ليتني غير مطلوب لهذه الجهة. والعكس صحيح إذا ما تبدلت السيطرة بين كل الجهات.

 

وجدت نفسي في مدينة أعزاز مقيد الحركة، وفي منطقة لا تستلذ بالتنقل بها على دراجة نارية ولا بسيارة نظراً لرداءة  الطرقات الفرعية والعامة إن وجدت _ يوجد طريق جزء من الطريق الدولي الواصل بين مدينة أعزاز والبوابة الحدودية مع تركيا (بوابة باب السلامة) _ إذا ما سرت عليه ووصل معدل سرعة الدراجة النارية فوق ال80 أطير من الفرح وأتخيل ذاتي في الشوارع التي تظهر في الأفلام _ وطرق أخرى، أدى حصار المنطقة وسير سيارات الشحن عليها على تفسخ الزفت والطرق الفرعية غير مزفتة وكل ما فيها من مساحة، يكبل الذاكرة والصور، غير أنها كانت تشهد معارك طاحنة بين الجيش الحر وتنظيم داعش، والدوارات لا تهدأ، حيث يتم سحل جثث مقاتلي داعش، إذ تم تسمية دوار في المدينة “دوار الجثث”  لفترة محددة وأي شخص قد قتل التنظيم أحد أفراد عائلته عليه الذهاب ليتشفى بجثث قتلى التنظيم هناك.

 

ولم أكن استطيع المرور إلى إدلب عن طريق عفرين خوفاً من اعتقال أخر من قبل وحدات الحماية الكردية، إثر سماعي لقصص اعتقال لأخرين كانوا عابري سبيل وتم اعتقالهم إما لقوميتهم أو لوضع علم الثورة على شاشة الموبايل ولا ناقة لهم في منطقة عفرين للإقامة بها وإنما عابري سبيل.

 

سماعي لقصص من شباب فرضت عليهم جبهة النصرة إما الرحيل عن المنطقة أو الاعتقال أو الانضمام لها فهَجروا بلداتهم إلى أي مكان أخر.

 

زاد الخوف من الذهاب إلى عفرين وإدلب ويرافق نوبات الخوف من ازدياد وتيرة اضطراب الفقدان وأتخيل القرى التي تسيطر عليها الوحدات والنصرة، ونظراً لخبرتي في معارك في أعزاز، وصلة القرابة مع أبناء العشيرة في المنطقة، فقد نجوت من الاعتقال لدى الجيش الحر أو التدخل في تنقلاتي أو حرية تنقلي ولكن هذا لا يعني أن أي شاب أخر سوري لن يخاف من المرور بهذه المناطق ولن يستطيع بسبب الخوف مثلي، ولست هنا بصدد مناقشة هل خوفي محق وخوفه باطل أو العكس، أناقش هواجس اضطراب فقدان الأماكن الذي تحول لمرض يلازمني، لربما يلازم غيري!

 

قبل ترك حي الجزماتي وقرار السفر إلى تركيا لإجراء العملية، كنت التقط الصور لكل حارة ولكل باب ولكل دوار ولكل زقاق أو وجه طفل صغيرأو رجل مسن، أيضاً فقدان الأماكن يليه فقدان الناس الذين لكل منهم استقلاليته وهواجسه وتعابير وجهه التي تعكس ثقافة ونمط الحياة في هذه الأماكن.

 

كنت أقول لأصدقائي:  خاطر يراودني.. يا شباب خذوا ما شئتم من الصور وعيشوا الوقت كله لربما لن نزور أحياءنا الشعبية في حلب مرة ثانية!

 

كان الرفاق يردون بالاستهزاء، كنت أقول لنفسي لربما كلامهم واقع وإنما اضطرابات نفسية أعيشها وخاصة بعد فقدان الجامعة في النصف الثاني من عام 2012  ولكن مع حصارشرق حلب من قبل الروس والنظام السوري والإيرانيين، أيقنت ألا هواجس ولا اضطرابات، وكيف لمرض نفسي يكون كاذب في بيئة حقيقة؟ ولو لم تكن البيئة حقيقة لما تصاعدت الاضطرابات ولما كانت بالأساس.

 

أيقنت بعد سقوط شرق حلب والبقاء لمدة أكثر من سنة أتحاشى النظر إلى اسم حلب في اللوحات الطرقية ، ذات مرة _ واعترف بخطأي _ أنني مسحت كلمة حلب من إحدى اللوحات الطرقية بريف المحافظة الشرقي! لعدم  استطاعتي كبح نفسي من تحاشي النظر إلى اسم المدينة.

 

حاولت الاجتهاد للتأقلم مع الاضطراب وعدم محاربته واستراق النظر إلى صفحات المقيمين في المناطق السورية المبعثرة والمختلفة في توزع السيطرة والتركيز على المناطق والعيش مع المارة في فيديوهات التي ينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعي وتحديد موقع الماب في حساباتهم الشخصية وأماكن تنقلاتهم.

 

ذات مرة كنت أصور الاشتباكات الدائرة بين قوات درع الفرات وتنظيم داعش في قرية اسمها أسكيف قباسين ومن بين كل القصف وتبادل الرصاص بين المقاتلين، كان حمار رمادي اللون يمشي مترنح قادماً من مناطق سيطرة داعش باتجاه القرية التي تسيطر عليها فصائل درع الفرات.

 

في تلك اللحظة شردت بالحمار مطولاً ولم أعبأ بأصوات طيران التحالف الدولي ولا الطيران التركي ولا أصوات الرصاص الذي يصم السمع وأراقب ترنح الحمار حتى وصل إلى القرية ومر بالقرب من المنزل الذي أصور منه، كم تمنيت لو أنني حمار، اترنح بين قرى سورية ولا يقترب مني أحد ولا يطلب هويتي أحد ولا يسألني عن ديني أحد.

 

بعد يومين وجدنا الحمار مقتولاً ومرمياً إلى جانب الطريق!

 

تأقلمت مع الاضطراب وأخذت أترجمه بكيفية الحفاظ على الموجود وعدم التباكي على المفقود وتبلورت مع عدة تهديدات تلقيتها من جهات خالفتها بالرأي: ” في حال زرت تلك المنطقة سنقوم بكسر قدمك وتصفيتك”.

تقبلت فكرة القولبة الأيدلوجية التي أخذ الكل يضع الأخر المخالف له فيها، وبحكم ما عشته منذ عمر 18 سنة حتى عمر ال23 تمت قولبتي وتأقلمت في المناطق التي أعيش فيها بريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي بين جرابلس وأعزاز والباب وقراهم التي أخذت أجوبها والتعرف على أهاليها وناسها وثقافتهم وما يميز قرية عن أخرى بحجارتها ولون تربتها وأنواع الخضار التي تنبت هنا  وميزاتها عن تلك التي تنبت في مناطق أخرى، وطقوسها وغيومها وقببها الطينية وحكايا المسنيين عن سفرهم مشياً على الأقدام من قراهم إلى مدينة غازي عنتاب التركية لشراء دبس الفليفة دون غيره وسفرهم إلى حلب مشياً على الأقدام لشراء حاجياتهم وعن أنهار جفت وأبار انتعشت من جديد وعن سيول جرفت معها أواني رومانية قديمة كانت ذات يوم تزين منزل رجل دين مسيحي هنا وعن معاني أسماء بعض القرى والتي يعود اسمها إلى أصل سرياني وعن الكثير من قصص بعثات الأثار.

 

“فكر بالموجود ولا تبكي على المفقود”

 

تحولت هذه النظرية التي بت أرددها لنفسي دائماً كحرز لمعالجة الاضطراب الذي تأقلمت عليه وأخذت أصور ما تقع عليه عيني وأعيش وقتي وأخزن في مخيلتي صور الحياة في القرى كل على حدة، عش اليوم ولربما غداً لن تستطيع القدوم إلى هنا.

 

و ما لم استطع زيارته من القرى والمدن السورية _ على أمل زيارتها _ أقوم بالتجول في هذه المدن من عيون وقصص المسنيين والمهجرين الذين قدموا من شتى المناطق السورية وأقاموا في شمال حلب علهم يعودون يوماً ما ونعود معهم وويتم شفائي من مرض اضطراب فقدان الأماكن.

قد يعجبك ايضا